صفحة جزء
( قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين )

[ ص: 342 ] لما خاطبهم بقوله : ( هل علمتم ) ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ، ولا تتبع أحوالهم ، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه كان يكلمهم من وراء حجاب ، فرفعه ووضع التاج وتبسم ، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة ، فتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار . وقيل : استفهام تقرير ؛ لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها .

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عرفوه ؟ قلت : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم - عليه السلام - ، لا عن بعض أعزاء مصر . وقرأ الجمهور : ( أئنك ) على الاستفهام ، والخلاف في تحقيق الهمزتين ، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التليين أو التحقيق مذكور في القراءات السبع . وقرأ قتادة وابن محيصن وابن كثير : ( إنك ) بغير همزة استفهام ، والظاهر أنها مرادة ، ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر ، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم : أمكن ، وهو مع ذلك بعيد . وقرأ أبي : ( أئنك ) أو ( أنت يوسف ) . وخرجه ابن جني على حذف خبر " إن " وقدره : أئنك لأنت يوسف ، أو أنت يوسف . وقدره الزمخشري : أئنك يوسف ، أو أنت يوسف ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، قال : وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاستثبات ، انتهى . وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا : ( أو أنت يوسف ) ؟ وفي قراءة الجمهور : ( أئنك لأنت ) يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت ، وهو فصل : وخبر " إن " " يوسف " كما تقول : إن كان زيد لهو الفاضل ، ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ ، ويوسف خبره ، والجملة في موضع خبر " إن " ولا يجوز أن يكون أنت توكيدا للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما ، ولما استفهموه أجابهم فقال : ( أنا يوسف ) كاشفا لهم أمره ، وزادهم في الجواب قوله : ( وهذا أخي ) لأنه سبق قوله : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ) ؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه ، وإن كان معلوما عندهم وتوطئة لما ذكر بعد ( من ) هو بالتقوى والصبر ، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر .

وقال مجاهد : من يتق في تركه المعصية ويصبر في السجن .

وقال النخعي : من يتق الزنا ويصبر على العزوبة . وقيل : ومن يتق الله ويصبر على المصائب .

وقال الزمخشري : ( من يتق ) من يخف الله وعقابه ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات . وقيل : من يتق معاصي الله ، ويصبر على أذى الناس ، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله .

وقرأ قنبل : ( من يتقي ) فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة ، وهذه [ ص: 343 ] الياء إشباع ، وقيل : جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول : لم يرمي زيد ، وقد حكوا ذلك لغة . وقيل : هو مرفوع ، و ( من ) موصول بمعنى الذي ، وعطف عليه مجزوم وهو : ( ويصبر ) وذلك على التوهم ، كأنه توهم أن " من " شرطية ، و " يتقي " مجزوم . وقيل : ( ويصبر ) مرفوع عطفا على مرفوع ، وسكنت الراء لا للجزم ، بل لتوالي الحركات ، وإن كان ذلك من كلمتين ، كما سكنت في ( يأمركم ويشعركم وبعولتهن ) أو مسكنا للوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والأحسن من هذه الأقوال أن يكون " يتقي " مجزوما على لغة ، وإن كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام ؛ لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة .

و ( المحسنين ) عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم .

و ( آثرك ) فضلك بالملك ، أو بالصبر والعلم قالهما ابن عباس ، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي ، أو بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان وبصبرك على أذانا قاله صاحب الغنيان ، أو بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين قاله الزمخشري وهو مناسب لقوله : ( إنه من يتق ) الآية ، وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه واعتراف بما صدر منهم في حقه . و ( خاطئين ) من خطئ إذا تعمد ، وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له ، و ( لا تثريب ) لا لوم ولا عقوبة ، و ( تثريب ) اسم لا ، و ( عليكم ) الخبر ، و ( اليوم ) منصوب بالعامل في الخبر ؛ أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق ( اليوم ) ؟ ( قلت ) : بالتثريب ، أو بالمقدر في ( عليكم ) من معنى الاستقرار ، أو بـ ( يغفر ) والمعنى : لا أثربكم اليوم ، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام ، ثم ابتدأ فقال : ( يغفر الله لكم ) قد عالهم بمغفرة ما فرط منهم ، يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعا ، ومنه قول المشمت : يهديكم الله ويصلح بالكم ، أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران ، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم ، انتهى .

أما قوله : إن اليوم يتعلق بالتثريب ، فهذا لا يجوز ، لأن التثريب مصدر ، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله : ( عليكم ) إما أن يكون خبرا ، أو صفة لـ ( تثريب ) ، ولا يجوز الفصل بينهما ؛ لأن معمول المصدر من تمامه ، وأيضا لو كان اليوم متعلقا بـ ( تثريب ) لم يجز بناؤه ، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف ، وهو الذي يسمى المطول ، ويسمى الممطول ، فكان يكون معربا منونا .

وأما تقديره الثاني فتقدير حسن ، ولذلك وقف على قوله : ( اليوم ) أكثر القراء ، وابتدءوا بـ ( يغفر الله لكم ) على جهة الدعاء ، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري .

وأما تقديره الثالث وهو أن يكون ( اليوم ) متعلقا بـ ( يغفر ) فمقبول ، وقد وقف بعض القراء على ( عليكم ) وابتدأ ( اليوم يغفر الله لكم ) . قال ابن عطية : والوقف على ( اليوم ) أرجح في المعنى ؛ لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله ، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي . وأما قوله فبشارة إلى آخره ، فعلى طريقة المعتزلة ، فإن الغفران لا يكون إلا لمن تاب . قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة ، وأجاز الحوفي أن يكون ( عليكم ) في موضع الصفة لـ ( تثريب ) ويكون الخبر ( اليوم ) ، وهو وجه حسن . وقيل : ( عليكم ) بيان كـ " لك " في قولهم : [ ص: 344 ] " سقيا لك " ، فيتعلق بمحذوف . ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بـ ( تثريب ) لأنه كان يعرب ، فيكون منونا لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف ، ولو قيل : إن الخبر محذوف ، و ( عليكم ) متعلق بمحذوف يدل عليه ( تثريب ) ، وذلك المحذوف هو العامل في ( اليوم ) وتقديره : لا تثريب عليكم اليوم ، كما قدروا في ( لا عاصم اليوم من أمر الله ) أي : يعصم اليوم ، لكان وجها قويا ؛ لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ، ولم يلفظ به بنو تميم ، ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران ، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء ، فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة .

والباء في ( بقميصي ) الظاهر أنها للحال ؛ أي : مصحوبين أو ملتبسين به . وقيل : للتعدية ؛ أي : اذهبوا قميصي ، أي : احملوا قميصي . قيل : هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه ، وكان من الجنة أمره جبريل - عليه السلام - أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي . وقيل : كان لإبراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار ، ثم لإسحاق ، ثم ليعقوب ، ثم ليوسف . وقيل : هو القميص الذي قد من دبر أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة .

والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد ، قال ذلك : ابن عطية . وهكذا تتبين الغرابة في أن وجد يعقوب ريحه من بعد ، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل واحد . وقوله : ( فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) يدل على أنه علم أنه عمي من الحزن ، إما بإعلامهم ، وإما بوحي . وقوله : ( يأت بصيرا ) يظهر أنه بوحي ، وأهلوه الذين أمر بأن يؤتى بهم سبعون ، أو ثمانون ، أو ثلاثة وتسعون ، أو ستة وتسعون ، أقوال أولها للكلبي وثالثها لمسروق . وفي واحد من هذا العدد خلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى - عليه السلام - ستمائة ألف . ومعنى : ( يأت ) يأتيني ، وانتصب ( بصيرا ) على الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية