صفحة جزء
( بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) .

هذه السورة [ ص: 224 ] مكية بلا خلاف ، كان - عليه السلام - يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله علي . وقال الضحاك : صلى - عليه السلام - هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن ، فقالت قريش : ما أنزل عليه إلا ليشقى . وقال مقاتل : قال أبو جهل والنضر والمطعم : إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت . ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أي : بلغته وكان فيما علل به قوله ( لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) أكد ذلك بقوله ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ) والتذكرة هي البشارة والنذارة ، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة ، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو : يس والر وما أشبههما ، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة . وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : معنى ( طه ) يا رجل . فقيل بالنبطية . وقيل بالحبشية . وقيل بالعبرانية . وقيل لغة يمنية في عك . وقيل في عكل . وقالالكلبي : لو قلت في عك : يا رجل لم يجب حتى تقول ( طه ) . وقال السدي معنى ( طه ) يا فلان . وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم :


دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا



وقول الآخر :


إن السفاهة طه من خلائقكم     لا بارك الله في القوم الملاعين



وقيل هو اسم من أسماء الرسول . وقيل : من أسماء الله . وقال الزمخشري : ولعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به .


إن السفاهة طه في خلائقكم     لا قدس الله أخلاق الملاعين



انتهى . وكان قد قدم أنه يقال : إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل ، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء ، وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء ، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه . وقيل : طا فعل أمر وأصله ( طأ ) ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفا ( وها ) مفعول وهو ضمير الأرض ، أي : طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه . وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره ( طه ) . قيل : وأصله ( طأ ) فحذفت الهمزة بناء على قلبها في ( يطأ ) على حد لا هناك المرتع بني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف ، أو أصله ( طأ ) وأبدلت همزته هاء فقيل ( طه ) . وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد : طاوي .

وقرأ طلحة : ما نزل عليك ، بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنيا للمفعول ( القرآن ) بالرفع . وقرأ الجمهور ( ما أنزلنا عليك القرآن ) ومعنى ( لتشقى ) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله ( لعلك باخع نفسك ) والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل : أتعب من رائض مهر . وأشقى من رائض مهر . قال الزمخشري : أي : ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة انتهى . وقيل : أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول . و ( لتشقى ) و ( تذكرة ) علة لقوله ( ما أنزلنا ) وتعدى في ( لتشقى ) باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير ( ما أنزلنا ) هو لله ، وضمير ( لتشقى ) للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما اتحد الفاعل في ( أنزلنا ) و ( تذكرة ) إذ هو مصدر ذكر ، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافا والجمهور يشترطونه .

وقال الزمخشري : فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله ( أن تحبط أعمالكم ) قلت : بلى ولكنها [ ص: 225 ] نصبة طارئة كالنصبة في ( واختار موسى قومه ) وأما النصبة في ( تذكرة ) فهي كالتي في ضربت زيدا ؛ لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها . انتهى . وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوبا متفقا عليه بل في ذلك خلاف . أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله ؟

وقال ابن عطية : ( إلا تذكرة ) يصح أن ينصب على البدل من موضع ( لتشقى ) ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة . انتهى . وقد رد الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكون ( تذكرة ) بدلا من محل ( لتشقى ) ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن . انتهى . ويعني باختلاف الجنسين أن نصب ( تذكرة ) نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في ( لتشقى ) بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى ( إنا أنزلنا ) إليك ( القرآن ) لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة ، و ( ما أنزلنا عليك ) هذا المتعب الشاق ( إلا ) ليكون ( تذكرة ) وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ( تذكرة ) حالا ومفعولا له ( لمن يخشى ) لمن يئول أمره إلى الخشية . انتهى . وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ ، وكون ( إلا تذكرة ) بدل من محل ( لتشقى ) هو قول الزجاج . وقال النحاس : هذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من قبل أن التذكرة ليست بشقاء . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون ( تذكرة ) بدلا من ( القرآن ) ويكون القرآن هو التذكرة ، وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدرا ، أي : لكن ذكرنا به ( تذكرة ) . قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا المذكور ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو ( لتشقى ) ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى . والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح .

وانتصب ( تنزيلا ) على أنه مصدر لفعل محذوف ، أي : نزل ( تنزيلا ممن خلق ) . وقال الزمخشري : في نصب ( تنزيلا ) وجوه : أن يكون بدلا من ( تذكرة ) إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له ؛ لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمرا ، وأن ينصب بأنزلنا ؛ لأن معنى ( ما أنزلنا ) ( إلا تذكرة ) أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولا به ، أي : أنزله الله ( تذكرة لمن يخشى ) تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين . انتهى . والأحسن ما قدمناه أولا من أنه منصوب بنزل مضمرة . وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف ، أما الأول ففيه جعل ( تذكرة ) و ( تنزيلا ) حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالا لا ينقاس ، وأيضا فمدلول ( تذكرة ) ليس مدلول ( تنزيلا ) ولا ( تنزيلا ) بعض ( تذكرة ) فإن كان بدلا فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول ؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك ؛ لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ، وأما نصبه على المدح فبعيد ، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد ؛ لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولا بيخشى ، وقوله فيه ( وهو معنى حسن وإعراب بين ) عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة .

وقرأ ابن أبي عبلة ( تنزيل ) رفعا على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق ( يخشى ) بـ ( تنزيل ) وأنه منقطع مما قبله ، فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف . وفي قوله ( ممن خلق ) تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر ، وكان في قوله ( ممن خلق ) التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام [ ص: 226 ] وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد ، وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة ، والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين .

وقال الزمخشري ويجوز أن يكون ( أنزلنا ) حكاية لكلام جبريل - عليه السلام - والملائكة النازلين معه . انتهى . وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه . و ( العلى ) جمع العليا ووصف ( السماوات ) بالعلى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ، والظاهر رفع ( الرحمن ) على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ( الرحمن ) . وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون بدلا من الضمير المستتر في ( خلق ) انتهى . وأرى أن مثل هذا لا يجوز ؛ لأن البدل يحل محل المبدل منه ، و ( الرحمن ) لا يمكن أن يحل محل الضمير ؛ لأن الضمير عائد على من الموصولة و ( خلق ) صلة ، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط . وأجاز الزمخشري أن يكون رفع ( الرحمن ) على الابتداء قال يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق . وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ ( الرحمن ) بالكسر . قال الزمخشري : صفة لـ ( من خلق ) يعني لمن الموصولة ، ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون ( الرحمن ) صفة لمن ، فالأحسن أن يكون ( الرحمن ) بدلا من من ، وقد جرى ( الرحمن ) في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل . وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو ( على العرش استوى ) وعلى قراءة الرفع إن كان بدلا كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك ، أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر ، فيكون ( الرحمن ) والجملة خبرين عن هو المضمر . وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف .

وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله ( على العرش ) ثم يقرأ ( استوى له ما في السماوات ) على أن يكون فاعلا لاستوى لا يصح إن شاء الله .

ولما ذكر تعالى أنه اخترع السماوات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى ( له ) ملك جميع ( ما ) حوت السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ) ، أي : تحت الأرض السابعة ، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب . وعن السدي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة . وقيل : ( وما تحت الثرى ) ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيدا لقوله ( وما في الأرض ) إلا إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيدا . وقيل : المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك ؛ لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير : له علم ما في السماوات

ولما ذكر تعالى أولا إنشاء السماوات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ، ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله : ( وإن تجهر بالقول ) للرسول ظاهر ، أو المراد أمته ، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلا بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر ؛ لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر ؛ أي : إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر ، والسر مقابل للجهر كما قال ( يعلم سركم وجهركم ) والظاهر أن ( أخفى ) أفعل تفضيل ، أي : وأخفى من السر .

قال ابن عباس : ( السر ) ما تسره إلى غيرك ، والأخفى ما تخفيه في نفسك ، وقاله الفراء . وعن ابن عباس أيضا ( السر ) ما أسره في نفسه ، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه . وعن قتادة : قريب من هذا . وقال مجاهد : ( السر ) ما تخفيه من الناس ( وأخفى ) منه الوسوسة . وقال ابن زيد ( السر ) سر الخلائق ، وأخفى منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري . وقيل : ( السر ) العزيمة ، وأخفى منه ما لم يخطر على القلب ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله ( وأخفى ) هو فعل ماض لا أفعل تفضيل ، أي : ( يعلم ) أسرار العباد ( وأخفى ) عنهم ما يعلمه [ ص: 227 ] هو كقوله ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه ) وقوله ( ولا يحيطون به علما ) . قال ابن عطية : وهو ضعيف .

وقال الزمخشري : وليس بذلك قال : فإن قلت : كيف طابق الجزاء الشرط ؟ قلت : معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر . انتهى .

والجلالة مبتدأ و ( لا إله إلا هو ) الخبر و ( له الأسماء الحسنى ) خبر ثان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى ؟ فقيل : هو ( الله ) و ( الحسنى ) تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير ، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة ، والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلا منه ، وذكروا أن هذه الأسماء هي التي قال فيها رسول الله : " إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة " . وذكرها الترمذي مسندة .

التالي السابق


الخدمات العلمية