صفحة جزء
[ ص: 444 ] سورة غافر خمس وثمانون آية . مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب [ ص: 445 ] الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) .

أزف الشيء : قرب ، قال الشاعر :


أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد



[ ص: 446 ] التباب : الخسران ، السلسلة معروفة ، السحب : الجر ، سجرت التنور : ملأته نارا .

( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار

سبع الحواميم مكيات ، قالوا بإجماع . وقيل : في بعض آيات هذه السور مدني . قال ابن عطية : وهو ضعيف .

وفي الحديث : " إن الحواميم ديباج القرآن " وفيه : " من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم " ، وفيه : " مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب .

وهذه الحواميم مقصورة على المواعظ والزجر وطرق الآخرة وهي قصار لا تلحق فيها سآمة .

ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يئول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين ، ذكر هنا أنه تعالى ( غافر الذنب وقابل التوب ) ، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان ، وإلى الإقلاع عما هو فيه ، وأن باب التوبة مفتوح .

وذكر شدة عقابه ، وصيرورة العالم كلهم فيه ليرتدع عما هو فيه ، وأن رجوعه إلى ربه ، فيجازيه بما يعمل من خير أو شر .

وقرئ : بفتح الحاء ، اختيار أبي القاسم بن جبارة الهذلي ، صاحب كتاب : ( الكامل في القرآن ) ، وأبو السمال : بكسرها على أصل التقاء الساكنين ، وابن أبي إسحاق وعيسى : بفتحها ، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين ، وكانت فتحة طلبا للخفة كأين ، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره : اقرأ حم .

وفي الحديث : " أن أعرابيا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حم ما هو ؟ فقال : أسماء وفواتح سور " وقال شريح بن أبي أوفى العبسي :


يذكرني حاميم والرمح شاجر     فهلا تلا حاميم قبل التقدم



وقال الكميت :


وجدنا لكم في آل حميم آية     تأولها منا تقي ومعرب



أعربا حاميم ، ومنعت الصرف للعلمية ، أو العلمية وشبه العجمة ؛ لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب ، وإنما وجد ذلك في العجم ، نحو : قابيل وهابيل .

وتقدم فيما روي في الحديث جمع ( حم ) على الحواميم ، كما جمع ( طس ) على الطواسين .

وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه ابن منصور اللغوي أنه قال : من الخطأ [ ص: 447 ] أن تقول : قرأت الحواميم ، وليس من كلام العرب ; والصواب أن يقول : قرأت آل حم . وفي حديث ابن مسعود : " إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات دمثات " انتهى .

فإن صح من لفظ الرسول أنه قال : " الحواميم " كان حجة على من منع ذلك ، وإن كان نقل بالمعنى ، أمكن أن يكون من تحريف الأعاجم .

ألا ترى لفظ ابن مسعود : " إذا وقعت في آل حميم " وقول الكميت : وجدنا لكم في آل حاميم ؟ وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة ، وقد زادوا في حاميم أقوالا هنا ، وهي مروية عن السلف ، غنينا عن ذكرها ، لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها .

فإن كانت حم اسما للسورة ، كانت في موضع رفع على الابتداء ، وإلا فتنزيل مبتدأ ، ومن الله الخبر ، أو خبر ابتداء ، أي : هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بـ ( تنزيل ) .

و ( العزيز العليم ) : صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم ، وهما من صفات الذات .

وقال الزجاج : ( غافر ) ( وقابل ) صفتان ، و ( شديد ) بدل . انتهى .

وإنما جعل ( غافر ) و ( قابل ) صفتين وإن كانا اسمي فاعل ؛ لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان ، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت ; وإضافتهما محضة فيعرف ، وصح أن يوصف بهما المعرفة ، وإنما أعرب ( شديد العقاب ) بدلا ؛ لأنه من باب الصفة المشبهة ، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة ، إذا أضيف إلى معرفة ، جاز أن ينوى بإضافته التمحض ، فيتعرف وينعت به المعرفة ، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة ، فإنه لا يتعرف .

وحكى صاحب ( المقنع ) عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة ، قال : وذلك خطأ عند البصريين ؛ لأن حسن الوجه نكرة ، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل .

وقال أبو الحجاج الأعلم : لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف ؛ لأن الإضافة لا تمنع منه . انتهى ، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين .

وقد جعل بعضهم ( غافر الذنب ) وما بعده أبدالا ، اعتبارا بأنها لا تتعرف بالإضافة ، كأنه لاحظ في ( غافر ) و ( قابل ) زمان الاستقبال .

وقيل : ( غافر ) و ( قابل ) لا يراد بهما المضي ، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين ، أي : إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا .

قال الزمخشري : جعل الزجاج ( شديد العقاب ) وحده بدلا بين الصفات فيه نبو ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها أنها من الرجز ، فإن وقع فيها [ ص: 448 ] جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ، ولا نبو في ذلك ؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل .

وقوله : فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي ؛ لأنه جعل فقد آذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لما قام زيد فقد قام عمرو ، وقوله : بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال ، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وأما بدل كل من كل ، وبدل بعض من كل ، وبدل اشتمال ، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها ، أو منعه ، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر ، وذلك في قول الشاعر :


فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي     عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف
ملك إذا نزل الوفود ببابه     عرفوا موارد مزنه لا تنزف



قال : فملك بدل من عمرو ، بدل نكرة من معرفة .

قال : فإن قلت : لم لا يكون بدلا من ابن أم أناس ؟ ( قلت ) : لأنه قد أبدل منه عمرو ، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ؛ لأنه قد طرح . انتهى .

فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ، ويتحد المبدل منه ; ودل على أن البدل من البدل جائز ، وقوله : جاءت تفاعيلها ، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل ، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولا في آخر العروض ، بل أجزاؤها منحصرة ، ليس منها شيء من هذه الأوزان ، فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلن .

وقال سيبويه أيضا : ولقائل أن يقول هي صفات ، وإنما حذفت الألف واللام من ( شديد العقاب ) ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا ، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع .

على أن الخليل قال في قولهم : لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل ، على نية الألف واللام ، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام . ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف . انتهى .

ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من ( شديد العقاب ) ، وترك ما هو أصل في النحو ، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع ، وينزه كتاب الله عن ذلك كله .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة ، وعلى ما لا شيء أدهى منه ، وأمر لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال . انتهى .

وأجاز مكي في ( غافر ) و ( قابل ) البدل حملا على أنهما نكرتان لاستقبالهما ، والوصف حملا على أنهما معرفتان لمضيهما . وقال أبو عبد الله الرازي : لا نزاع في جعل ( غافر ) و ( قابل ) صفة ، وإنما كانا كذلك ؛ لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار ، وكذلك ( شديد العقاب ) تفيد ذلك ؛ لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد ، فمعناه : كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن . انتهى .

وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ، ولا نظر فيه ، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله : ( من لدن حكيم عليم ) ، ومليك مقتدر من قوله : ( عند مليك مقتدر ) ، معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن ، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يذهب إليه مبتدئ في علم النحو ، فضلا عمن صنف فيه ، وقدم على تفسير كتاب الله .

وتلخص من هذا الكلام المطول أن ( غافر الذنب ) وما عطف عليه و ( شديد العقاب ) أوصاف ؛ لأن المعطوف على الوصف وصف ، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال ؛ لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع .

أو ( غافر ) و ( قابل ) وصفان ، و ( شديد ) بدل لمعرفة ذينك وتنكير ( شديد ) .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما بال الواو في قوله : ( وقابل التوب ) ؟ ( قلت ) : فيها نكتة جليلة [ ص: 449 ] وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . انتهى .

وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته ، والذي أفاد أن الواو للجمع ، وهذا معروف من ظاهر علم النحو .

وقال صاحب الغنيان : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر . وقطع ( شديد العقاب ) عنهما فلم يعطف لانفراده . انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .

ومذهب أهل السنة جواز غفران الله للعاصي ، وإن لم يتب إلا الشرك . والتوب يحتمل أن يكون كالذنب ، اسم جنس ; ويحتمل أن يكون جمع توبة ، كبشر وبشرة ، وساع وساعة . والظاهر من قوله : ( وقابل التوب ) أن توبة العاصي بغير الكفر ، كتوبة العاصي بالكفر مقطوع بقبولها .

وذكروا في القطع بقبول توبة العاصي قولين لأهل السنة .

ولما ذكر تعالى شدة عقابه أردفه بما يطمع في رحمته ، وهو قوله : ( ذي الطول ) ، فجاء ذلك وعيدا اكتنفه وعدان . قال ابن عباس : الطول : السعة والغنى ; وقال قتادة : النعم ; وقال ابن زيد : القدرة ، وقوله : طوله تضعيف حسنات أوليائه ، وعفوه عن سيئاتهم .

ولما ذكر جملة من صفاته العلا الذاتية والفعلية ، ذكر أنه المنفرد بالألوهية ، المرجوع إليه في الحشر ; ثم ذكر حال من جادل في الكتاب ، وأتبع بذكر الطائعين من ملائكته وصالحي عباده فقال : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) ، وجدالهم فيها قولهم : مرة سحر ، ومرة شعر ، ومرة أساطير الأولين ، ومرة إنما يعلمه بشر ، فهو جدال بالباطل ، وقد دل على ذلك بقوله : ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ) .

وقال السدي : ما يجادل أي : ما يماري . وقال ابن سلام : ما يجحد . وقال أبو العالية : نزلت في الحارث بن قيس ، أحد المستهزئين .

وأما ما يقع بين أهل العلم من النظر فيها ، واستيضاح معانيها ، واستنباط الأحكام والعقائد منها ، ومقارعة أهل البدع بها ، فذلك فيه الثواب الجزيل .

ثم نهى السامع أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها ، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك والتجارات والمكاسب ، وكانت قريش تتجر في الشأم واليمن ; فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم ، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل .

وقرأ الجمهور : ( فلا يغررك ) ، بالفك ، وهي لغة أهل الحجاز .

وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : فلا يغرك ، بالإدغام مفتوح الراء ، وهي لغة تميم .

ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول - عليه السلام - من آيات الله ، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة ، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله بهم ، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول - عليه السلام - إليهم ; فبدأ بقوم نوح ، إذ كان - عليه السلام - أول رسول في الأرض ، وعطف على قومه الأحزاب ، وهم الذين تحزبوا على الرسل . ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله ، ومنهم : عاد وثمود وفرعون وأتباعه .

وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل ؛ لأن الرسل لما عصمهم الله منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل . وقرأ الجمهور : ( برسولهم ) ; وقرأ عبد الله ( برسولها ) عاد الضمير إلى لفظ أمة .

( ليأخذوه ) : ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل . وقال ابن عباس : ليأخذوه : ليملكوه ، وأنشد قطرب :


فإما تأخذوني تقتلوني     فكم من آخذ يهوى خلودي



ويقال للقتيل والأسير : أخيذ . وقال قتادة : ( ليأخذوه ) : ليقتلوه ، عبر عن المسبب بالسبب .

( وجادلوا بالباطل ) أي : بما هو مضمحل ذاهب لا ثبات له . وقيل : الباطل : الكفر . وقيل : الشيطان . وقيل : بقولهم : ( ما أنتم إلا بشر مثلنا ) .

( ليدحضوا ) : ليزلقوا ، ( به الحق ) أي : الثابت الصدق .

( فأخذتهم ) ، فأهلكتهم .

( فكيف كان عقاب ) إياهم ، استفهام تعجيب من استئصالهم ، واستعظام لما حل بهم ، وليس استفهاما عن كيفية [ ص: 450 ] عقابهم ، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة الله فيهم ; واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة ؛ لأنها فاصلة ، والأصل عقابي .

( وكذلك حقت ) أي : مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة ، كونهم من أصحاب النار ، من تقدم منهم ومن تأخروا .

( أنهم ) : بدل من ( كلمة ربك ) ، فهي في موضع رفع ، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة . والمعنى : كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، وجب إهلاك هؤلاء ؛ لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم ، وهو كونهم من أصحاب النار .

وفي مصحف عبد الله : ( وكذلك سبقت ) ، وهو تفسير معنى ، لا قراءة . وقرأ ابن هرمز ، وشيبة ، وابن القعقاع ، ونافع ، وابن عامر : كلمات على الجمع ; وأبو رجاء ، وقتادة ، وباقي السبعة : على الإفراد .

التالي السابق


الخدمات العلمية