صفحة جزء
ومن غريب ما يحكى أن شخصا رأى في النوم في كفه مكتوبا خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ( والطور ) إلى ( إن عذاب ربك لواقع ) ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص . وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع . وقيل : هو منصوب بقوله : ( لواقع ) ، وينبغي أن يكون ( ما له من دافع ) على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول . قال ابن عباس : ( تمور ) : تضطرب . وقال أيضا : تشقق . وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض . وقال مجاهد : تدور . ( وتسير الجبال سيرا ) ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخرا ( كالعهن المنفوش ) . ( فويل ) : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده . والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل .

( يوم يدعون ) ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم . وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها ( دعا ) : مدعوعين ، يقال لهم : ( هذه النار ) . لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ، وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع . ثم قيل لهم على قطع رجائهم : ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية .

[ ص: 148 ] وقال الزمخشري : ( أفسحر هذا ) ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر . . ( أفسحر هذا ) ، يريد : أهذا المصداق أيضا سحر ؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى . ( أم أنتم لا تبصرون ) : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عميا عن الخبر ؟ وهذا تقريع وتهكم . فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع . انتهى . وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع . وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء .

ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يئول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك . ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر . وقرأ الجمهور : فكهين ، نصبا على الحال والخبر في ( جنات ونعيم ) . وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به . ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين . ( ووقاهم ) معطوف على ( في جنات ) ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على ( آتاهم ) ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم . وجوز أن تكون الواو في ( ووقاهم ) واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم . وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف . ( كلوا واشربوا ) على إضمار القول : أي يقال لهم : ( هنيئا ) . قال الزمخشري : أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :


هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت



أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعا به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا . وكذلك معنى هنيئا هاهنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : ( كفى بالله ) ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . انتهى . وتقدم لنا الكلام مشبعا على ( هنيئا ) في سورة النساء . وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ; فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ . وأما قوله : إن الباء تتعلق بـ كلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما . وانتصب ( متكئين ) على الحال . قال أبو البقاء : من الضمير في ( كلوا ) ، أو من الضمير في ( ووقاهم ) ، أو من الضمير في ( آتاهم ) ، أو من الضمير في ( فاكهين ) ، أو من الضمير في الظرف . انتهى . والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : ( في جنات ) . وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف . وقرأ عكرمة : ( بحور عين ) على الإضافة .

والظاهر أن قوله : ( والذين آمنوا ) مبتدأ ، وخبره ( ألحقناه ) . وأجاز أبو البقاء أن يكون ( والذين ) في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا . ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم . فبإيمان متعلق بقوله : ( وأتبعناهم ) . وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه " ثم قرأ الآية . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . انتهى . فيكون بإيمان متعلقا بألحقنا ، أي ألحقنا [ ص: 149 ] بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حد التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى بأولاد المؤمنين . وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وعن ابن عباس أيضا : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون . وعنه أيضا : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية . وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك .

وقال الزمخشري : ( والذين آمنوا ) ، معطوف على حور عين . أي قرناهم بالحور العين ; وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ( إخوانا على سرر متقابلين ) ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم . ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم . ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلا عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . انتهى .

ولا يتخيل أحد أن ( والذين ) معطوف على ( بحور عين ) غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره . والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة . وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة ( ألحقنا ) تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال . وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ; وباقي السبعة : واتبعتهم ; وأبو عمرو : و " ذرياتهم " جمعا نصبا ; وابن عامر : جمعا رفعا ; وباقي السبعة : مفردا ; وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمد والهمز .

وقرأ الجمهور : ( ألتناهم ) ، بفتح اللام ، من ألات ; والحسن وابن كثير : بكسرها ; وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ; وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ; ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضا : لتناهم بفتح اللام . قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضا آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز . وقرئ : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون . قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص . ويقال : ألت بمعنى غلظ . وقام رجل إلى عمر ، رضي الله عنه ، فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه . والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين . والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئا ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور . وقال ابن زيد : الضمير عائد على الأبناء . ( من عملهم ) : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : ( كل امرئ بما كسب رهين ) : أي مرتهن وفيه ، ( وأمددناهم ) : أي يسرنا لهم شيئا فشيئا حتى يكر ولا ينقطع .

( يتنازعون فيها ) أي يتعاطون ، قال الأخطل :


نازعته طيب الراح الشمول وقد     صاح الدجاج وحانت وقعة الساري



أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة . وقرأ الجمهور : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) ، برفعهما ; وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري [ ص: 150 ] بين شراب الخمر في الدنيا . والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا . ( غلمان لهم ) : أي مماليك . ( مكنون ) : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى . ويجوز أن يراد بـ " مكنون " : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن . والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ; ويدل عليه ( فمن الله علينا ) : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه . وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه . ( مشفقين ) : رقيقي القلوب ، خاشعين لله . وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار ; وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم . ( من قبل ) : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه . ( ندعوه ) نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، ( إنه هو البر ) : المحسن ، ( الرحيم ) : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب . أو ( ندعوه ) من الدعاء . وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية