صفحة جزء
قوله عز وجل : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .

عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت ( ألم يأن ) . وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة . وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت . وقرأ الجمهور : ( ألم ) ; والحسن وأبو السمال : ألما . والجمهور : ( يأن ) مضارع أنى حان ; والحسن : يئن مضارع آن حان أيضا ، والمعنى : قرب وقت الشيء . ( أن تخشع ) : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح . وفي الحديث : " أول [ ص: 223 ] ما يرفع من الناس الخشوع " . ( لذكر الله ) : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : ( إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) . قيل : أو لتذكير الله إياهم . وقرأ الجمهور : وما نزل مشددا ; ونافع وحفص : مخففا ; والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه : مبنيا للمفعول مشددا ; وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنيا للفاعل . والجمهور : ( ولا يكونوا ) بياء الغيبة ، عطفا على ( أن تخشع ) ; وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهيا ، وإما عطفا على ( أن تخشع ) . ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل ) ، وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل . حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، ( فطال عليهم الأمد ) : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة . وقيل : أمد الحياة . وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان ; وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول . ( فقست قلوبهم ) : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة .

( يحيي الأرض بعد موتها ) : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها . كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع . وقرأ الجمهور : (المصدقين والمصدقات ) ، بشد صاديهما ; وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما ; وأبي : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدقوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغ عن الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ( وأقرضوا ) ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا . انتهى . واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون معطوفا على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قوله : ( والمصدقات ) . ولا يصح أيضا أن يكون معطوفا على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله :


فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء



يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة . قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي . وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك . ( والشهداء ) : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على ( الصديقون ) ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك . إن الكلام تام في قوله : ( الصديقون ) ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصديقية لقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) الآية ; وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده لعظم أجرهم . وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على ( الصديقون ) ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفردات ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقا وشهيدا ، قاله مجاهد . وفي الحديث ، من رواية البراء : " مؤمنو أمتي شهداء " ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) . ( لهم أجرهم ) : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين . والظاهر في نورهم أنه حقيقة . وقال مجاهد وغيره : عبارة عن [ ص: 224 ] الهدى والكرامة والبشرى .

( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ) : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجا في هذه الآية . ( لعب ولهو ) ، كحالة المترفين من الملوك . ( وزينة ) : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء . ( وتفاخر بينكم ) : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمي بالإضافة . ( وتكاثر ) بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام . قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقصيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاما ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . انتهى .

وقال ابن عطية : ( كمثل ) في موضع رفع صفة لما تقدم . وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحل أمره ، وتصير أمواله لغيره ، وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل . انتهى . قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة . وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها ; وحطام : بناء مبالغة كعجاب . وقرئ : مصفارا . ولما ذكر ما يئول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية