صفحة جزء
( سورة الطلاق مدنية وهي اثنتا عشرة آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا .

[ ص: 281 ] هذه السورة مدنية . قيل : وسبب نزولها طلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة ، قاله قتادة عن أنس . وقال السدي : طلاق عبد الله بن عمرو . وقيل : فعل ناس مثل فعله ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاصي ، و عمرو بن سعيد بن العاص ، و عتبة بن غزوان ، فنزلت . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذا وإن لم يصح ، فالقول الأول أمثل ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد ، أشار إلى الفتنة بالنساء ، وأنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصا منها إلا بالطلاق ، فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل ، بأن لا يكون بينهن اتصال ، لا بطلب ولد ولا حمل .

ياأيها النبي نداء للنبي - صلى الله عليه وسلم ، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه إذا طلقتم خطاب له - عليه الصلاة والسلام - مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم ، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب ، أقبل عليه - عليه السلام - أولا ثم رجع إليهم بالخطاب ، أو على إضمار القول ، أي قل لأمتك إذا طلقتم ، أو له ولأمته ، وكأنه ثم محذوف تقديره : يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم ، فالخطاب له ولهم ، أي : أنت وأمتك ، أقوال . وقال الزمخشري : خص النبي - صلى الله عليه وسلم ، وعم بالخطاب ; لأن النبي إمام أمته وقدوتهم . كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه ، وأنه مدرة قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادا مسد جميعهم . انتهى ، وهو كلام حسن .

ومعنى إذا طلقتم أي : إذا أردتم تطليقهن ، و " النساء " يعني المدخول بهن ( وطلقوهن ) أي : أوقعوا الطلاق ( لعدتهن ) هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : كتبته لليلة بقيت من شهر كذا ، وتقدير الزمخشري هنا حالا محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور ، أي : مستقبلات لعدتهن ، ليس بجيد ; لأنه قدر عاملا خاصا ، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصا ، بل إذا كان كونا مطلقا . لو قلت : زيد عندك أو في الدار ، تريد : ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار ، لم يجز . فتعليق اللام بقوله : ( فطلقوهن ) ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح . وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - من أنهم قرءوا : " فطلقوهن في قبل عدتهن " . وعن بعضهم : في قبل عدتهن . وعن عبد الله : لقبل طهرهن ، هو على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن ، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقا وغربا ، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض ؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله : ثلاثة قروء . والمراد : أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن ، فإن شاء ردها ، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزواج . وهذا الطلاق أدخل في السنة . وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة . وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقا في الأطهار فلا . وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث ، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة ، وهو مباح ، راعى في السنة الوقت فقط ، وأبو حنيفة التفريق [ ص: 282 ] والوقت . وقوله : ( فطلقوهن ) مطلق ، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع . والجمهور : على أنه لو طلق لغير السنة وقع . وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين : أنه لو طلق في حيض أو ثلاث لم يقع . والظاهر أن الخطاب في : وأحصوا العدة للأزواج أي : اضبطوا بالحفظ ، وفي الإحصاء فوائد : مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء وإذا أراد أن يطلق ثلاثا ، والعلم بأنها قد بانت ، فيتزوج بأختها وبأربع سواها . ونهى - تعالى - عن إخراجهن من مساكنهن حتى تنقضي العدة ، ونهاهن أيضا عن خروجهن ، وأضاف البيوت إليهن لما كان سكناهن فيها ، ونهيهن عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج ، إذ لا أثر لإذنهم . والإسكان على الزوج ، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك ، أو ملكها فلها عليه أجرته ، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوتة ، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهارا إلا لضرورة ، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء . إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وهي الزنا ، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث ، ورواه مجاهد عن ابن عباس ، فيخرجن للحد . وعن ابن عباس : البذاء على الأحماء ، فتخرج ويسقط حقها في السكنى ، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب . وعنده أيضا : جميع المعاصي ، من سرقة ، أو قذف ، أو زنا ، أو غير ذلك ، واختاره الطبري ، فيسقط حقها في السكنى . وعند ابن عمر والسدي وابن السائب : هي خروجها من بيتها خروج انتقال ، فيسقط حقها في السكنى . وعند قتادة أيضا : نشوزها عن الزوج ، فتطلق بسبب ذلك ، فلا يكون عليه سكنى . وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدة . لا تدري أيها السامع لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قال المفسرون : الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها ، والميل إليها بعد انحرافه عنها ، أو ظهور حمل فيراجعها من أجله . ونصب " لا تدري " على جملة الترجي ، فـ " لا تدري " معلقة عن العمل ، وقد تقدم لنا الكلام على قوله : وإن أدري لعله فتنة لكم وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات ( لعل ) فالجملة المترجاة في موضع نصب بـ " لا تدري " .

فإذا بلغن أجلهن أي : أشرفن على انقضاء العدة ( فأمسكوهن ) أي : راجعوهن ( بمعروف ) أي : بغير ضرار أو فارقوهن بمعروف أي : سرحوهن بإحسان ، والمعنى : اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ، فيملكن أنفسهن . وقرأ الجمهور : ( أجلهن ) على الإفراد . والضحاك وابن سيرين : آجالهن على الجمع . والإمساك بمعروف هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج ، والمفارقة بمعروف هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط . ( وأشهدوا ) الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة ، أو المفارقة وهي الطلاق . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله : وأشهدوا إذا تبايعتم . وعند الشافعية واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة . وقيل : ( وأشهدوا ) يريد على الرجعة فقط ، والإشهاد شرط في صحتها ، فلها منعه من نفسها حتى يشهد . وقال ابن عباس : الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالا كثيرة ، ويفسد تاريخ الإشهاد من الإشهاد . قيل : وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث . انتهى . ومعنى " منكم " قال الحسن : من المسلمين . وقال قتادة : من الأحرار . وأقيموا الشهادة لله هذا أمر للشهود ، أي : لوجه الله خالصا ، لا لمراعاة مشهود له ، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق . ( ذلكم ) إشارة إلى إقامة الشهادة ، إذ نوازل الأشياء تدور عليها ، وما يتميز المبطل من المحق . ومن يتق الله قال علي بن أبي طالب وجماعة : هي في معنى الطلاق ، أي : ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا إن ندم بالرجعة ( ويرزقه ) ما يطعم أهله . انتهى . ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله ، فبت [ ص: 283 ] الطلاق وندم ، لم يكن له مخرج ، وزال عنه رزق زوجته . وقال ابن عباس للمطلق ثلاثا : إنك لم تتق الله ، بانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجا . وقال : يجعل له مخرجا يخلصه من كرب الدنيا والآخرة . والظاهر أن قوله : ومن يتق الله متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق . وروي أنها في غير هذا المعنى ، وهو أن أسر ابن يسمى سالما لعوف بن مالك الأشجعي ، فشكا ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - فأمره بالتقوى فقبل ، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل ، كذا في الكشاف . وفي الوجيز : قطيعا من الغنم كانت للذين أسروه ، وجاء أباه فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيطيب له ؟ فقال : " نعم " ، فنزلت الآية . وقال الضحاك : من حيث لا يحتسب امرأة أخرى . وقيل : ومن يتق الحرام يجعل له مخرجا إلى الحلال . وقيل : مخرجا من الشدة إلى الرخاء . وقيل : من النار إلى الجنة . وقيل : من العقوبة ، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب . وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجا إلى الجنة .

ومن يتوكل على الله أي : يفوض أمره إليه فهو حسبه أي : كافيه . إن الله بالغ أمره قال مسروق أي : لا بد من نفوذ أمر الله ، توكلت أم لم تتوكل . وقرأ الجمهور : " بالغ " بالتنوين ، " أمره " بالنصب . و حفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة ، عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي : بالإضافة ، وابن أبي عبلة أيضا و داود بن أبي هند وعصمة ، عن أبي عمرو : " بالغ أمره " رفع أي : نافذ أمره . و المفضل أيضا : ( بالغا ) بالنصب ( أمره ) بالرفع ، فخرجه الزمخشري على أن ( بالغا ) حال ، وخبر ( إن ) هو قوله تعالى : قد جعل الله ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين ، كقوله :


إذا اسود جنح الليل فلتأت ، ولتكن خطاك خفافا أن حراسنا أسدا





ومن رفع ( أمره ) فمفعول ( بالغ ) محذوف تقديره : بالغ أمره ما شاء . قد جعل الله لكل شيء قدرا أي : تقديرا وميقاتا لا يتعداه ، وهذه الجمل تحض على التوكل . وقرأ جناح بن حبيش : قدرا بفتح الدال ، والجمهور بإسكانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية