صفحة جزء
( قتل الإنسان ما أكفره ) قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، غاضب أباه فأسلم ، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كافر برب النجم إذا هوى . وروي أنه قال : ( اللهم ابعث عليه كلبك يأكله ) فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء ، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حيا ، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله ، فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ، وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان ، والآية وإن نزلت في مخصوص فالإنسان يراد به الكافر . ( وقتل ) دعاء عليه ، والقتل أعظم شدائد الدنيا ( ما أكفره ) الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى ، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره . وقيل : ما استفهام توقيف ، أي : أي شيء أكفره ؟ أي جعله كافرا ، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر .

( من أي شيء خلقه ) استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه ، ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال : ( من نطفة خلقه فقدره ) أي فهيأه لما يصلح له ، وقال ابن عباس : أي في بطن أمه ، وعنه قدر أعضاءه ، وحسنا ودميما وقصيرا وطويلا وشقيا وسعيدا ، وقيل : من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه ( ثم السبيل يسره ) أي ثم يسر السبيل ، أي سهل ، قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسيره له هو هبة العقل . وقال مجاهد ، والحسن ، و عطاء ، وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال ، أي يسر قوما لهذا ، كقوله : ( إنا هديناه السبيل ) الآية ، وقوله تعالى : ( وهديناه النجدين ) ، وعن ابن [ ص: 429 ] عباس : يسره للخروج من بطن أمه . ( ثم أماته فأقبره ) أي جعل له قبرا صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع . قبره : دفنه ، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبرا ، والقابر : الدافن بيده ، قال الأعشى :


لو أسندت ميتا إلى قبرها عاش ولم ينقل إلى قابر

( ثم إذا شاء أنشره ) أي إذا أراد إنشاره أنشره ، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله ، وهو يوم القيامة ، وفي كتاب اللوامح : شعيب بن الحبحاب : شاء نشره ، بغير همز قبل النون ، وهما لغتان في الإحياء ، وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره ( كلا ) ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان ( لما يقض ) يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ( ما أمره ) به الله تعالى ، فالضمير في يقض للإنسان . وقال ابن فورك : لله تعالى ، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له ، ولما عدد تعالى نعمه في نفس الإنسان ذكر النعم فيما به قوام حياته ، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم . والظاهر أن الطعام هو المطعوم ، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض والإنبات ، وهذا قول الجمهور . وقال أبي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والحسن وغيرهم : ( إلى طعامه ) أي إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها ، وقرأ الجمهور : ( إنا ) بكسر الهمزة ، والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس : ( أنا ) بفتح الهمزة ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة ممالا ، فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام ، والفتح قالوا على البدل ورده قوم ؛ لأن الثاني ليس الأول . قيل : وليس كما ردوا ؛ لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه ، فترتب البدل وصح . انتهى . كأنهم جعلوه بدل كل من كل ، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال . وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا ، وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ، وصب الماء هو المطر . والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به . وقيل : شق الأرض هو بالنبات . ( حبا ) : يشمل ما يسمى حبا من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك ( وقضبا ) قال الحسن : العلف ، وأهل مكة يسمون القت القضب . وقيل : الفصفصة ، وضعف لأنه داخل في الأب . وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات ، كالبقول والهليون . وقال ابن عباس : هو الرطب ، لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله ( غلبا ) قال ابن عباس : غلاظا ، وعنه : طوالا ، وعن قتادة وابن زيد : كراما ( وفاكهة ) ما يأكله الناس من ثمر الشجر ، كالخوخ والتين . ( وأبا ) ما تأكله البهائم من العشب . وقال الضحاك : التبن خاصة . وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها ، والأب : يابسها . ( الصاخة ) اسم من أسماء القيامة يصم نبؤها الآذان ، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة ، أي الداهية . وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، كقوله :


أصمهم سرهم أيام فرقتهم     فهل سمعتم بسر يورث الصمما



وقول الآخر :


أصم بك الناعي وإن كان أسمعا



ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة . انتهى . ( يوم يفر ) بدل من ( إذا ) ، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه ، يدل عليه : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) وفراره من شدة الهول يوم القيامة ، كما جاء من قول الرسل : نفسي نفسي . وقيل : خوف التبعات ، لأن الملابسة تقتضي المطالبة . يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان : قصرت في برنا ، والصاحبة : أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون : لم [ ص: 430 ] تعلمنا وترشدنا ، وقرأ الجمهور : ( يغنيه ) : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء ، والزهري ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، وحميد ، وابن السميقع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة ، من قولهم : عناني الأمر : قصدني ( مسفرة ) مضيئة من أسفر الصبح : أضاء ، و ( ترهقها ) : تغشاها ( قترة ) أي غبار . والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم ، والثانية من غبار الأرض . وقيل : ( غبرة ) أي من تراب الأرض ، وقترة : سواد كالدخان . وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء . وقرأ الجمهور : قترة ، بفتح التاء ، وابن أبي عبلة : بإسكانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية