صفحة جزء
سورة الإخلاص مكية وهي أربع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) .

الصمد : فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ويستقل بها ، قال :


ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد



وقال آخر :


علوته بحسام ثم قلت له     خذها خزيت فأنت السيد الصمد



الكفو : النظير .

( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) هذه السورة مكية في قول عبد الله ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك .

ولما تقدم فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو عمه أبو لهب ، وما كان يقاسي من عباد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة ، جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد ، رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من [ ص: 528 ] المذاهب المخالفة للتوحيد .

وعن ابن عباس ، أن اليهود قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فنزلت ، وعن أبي العالية ، قال قادة الأحزاب : انسب لنا ربك ، فنزلت ، فإن صح هذا السبب ، كان هو ضميرا عائدا على الرب ، أي ( قل هو الله ) أي ربي الله ، ويكون مبتدأ وخبرا ، وأحد خبر ثان ، وقال الزمخشري : وأحد بدل من قوله : ( الله ) أو على هو أحد . انتهى . وإن لم يصح السبب ، فهو ضمير الأمر ، والشأن مبتدأ ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو ، وأحد بمعنى واحد ، أي فرد من جميع جهات الوحدانية ، أي في ذاته وصفاته لا يتجزأ ، وهمزة أحد هذا بدل من واو ، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل ، من ذلك امرأة أناة ، يريدون وناة ؛ لأنه من الوني وهو الفتور ، كما أن أحدا من الوحدة .

وقال ثعلب : بين واحد وأحد فرق ، الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان ، والأحد لا يدخله ، يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ؛ لأن الله خصوصية له الأحد ، وزيد تكون منه حالات . انتهى . وما ذكر من أن أحدا لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد ، وقرأ أبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، ونصر بن عاصم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وأبو عمرو في رواية يونس ، ومحبوب ، والأصمعي ، واللؤلؤي ، وعبيد ، وهارون عنه : ( أحد الله ) بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر نحو قوله :


ولا ذاكرا الله إلا قليلا



ونحو قوله :


عمرو الذي هشم الثريد لقومه



( الله الصمد ) مبتدأ وخبر ، والأفصح أن تكون هذه جملا مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف ، كما تقول : زيد العالم زيد الشجاع ، وقيل : الصمد صفة ، والخبر في الجملة بعده ، وتقدم شرح الصمد في المفردات ، وقال الشعبي ، ويمان بن رياب : هو الذي لا يأكل ولا يشرب . وقال أبي بن كعب : يفسره ما بعده ، وهو قوله : ( لم يلد ولم يولد ) . وقال الحسن : ( الصمد ) : المصمت الذي لا جوف له ، ومنه قوله :


شهاب حروب لا تزال جياده     عوابس يعلكن الشكيم المصمدا



وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة ، وقال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد ، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم ، قال الزمخشري : ( لم يلد ) لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، ودل على هذا المعنى بقوله : ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) . ( ولم يولد ) لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أول لوجوده ، وليس بجسم ولم يكافئه أحد ، يقال له كفو ، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء ، وبضم الكاف مع ضم الفاء ، وقرأ حمزة وحفص : بضم الكاف وإسكان الفاء ، وهمز حمزة ، وأبدلها حفص واوا ، وباقي السبعة : بضمهما والهمز ، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ونافع ، وفي رواية عن نافع أيضا ( كفا ) من غير همز ، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة ، وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : ( كفاء ) بكسر الكاف وفتح الفاء والمد ، كما قال النابغة :


لا تقذفني بركن لا كفاء له



الأعلم لا كفاء له : لا مثيل له ، وقال مكي : سيبويه يختار أن يكون الظرف خبرا إذا قدمه ، وقد خطأه المبرد بهذه الآية ، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبرا ، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم ، إنما أجاز أن يكون خبرا وأن لا يكون خبرا ، ويجوز أن يكون حالا من النكرة ، وهي أحد لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال ، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره ، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول . انتهى . وخرجه ابن عطية أيضا على الحال .

وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدما في أفصح الكلام وأعربه ؟ قلت : هذا [ ص: 529 ] الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه . انتهى .

وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : ( ولم يكن له كفوا أحد ) ليس الجار والمجرور فيه تاما ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا لكان ، بل هو متعلق ب ( كفوا ) وقدم عليه ، فالتقدير : ولم يكن أحد كفوا له ، أي مكافئه ، فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا ، وتقدم على كفوا للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى ، وتوسط الخبر ، وإن كان الأصل التأخر ؛ لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك ، وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفوا حال من أحد ؛ لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبرا ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه .

وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ، ويصلح أن يكون غير خبر ، قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خيرا منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت فيها مستقرا ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم ، أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على : فيها زيد قائم ، نصبت فتقول : ما كان فيها أحد خيرا منك ، وما كان أحد خيرا منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الملغى كان أحسن ، وإذا أردت أن يكون مستقرا ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير ، قال تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) ، وقال الشاعر :


ما دام فيهن فصيل حيا



انتهى ، وما نقلناه ملخصا ، وهو بألفاظ سيبويه ، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ، ومعنى قوله : مستقرا ، أي خبرا للمبتدأ ولكان ، فإن قلت : فقد مثل بالآية الكريمة ، قلت : هذا الذي أوقع مكيا والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام وهو في قوله :


ما دام فيهن فصيل حيا



أجرى فضلة لا خبرا ، كما أن له في الآية أجرى فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبرا كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبرا ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : ولم يكن له أحد ، بل لو تأخر " كفوا " وارتفع على الصفة وجعل له خبرا ، لم ينعقد منه كلام ، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو ، وله متعلق به ، والمعنى : ولم يكن له أحد مكافئه ، وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة ، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد تكلم العلماء على ذلك ، وليس هذا موضعه ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية