صفحة جزء
( فلما فصل طالوت بالجنود ) بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره : فجاءهم التابوت ، وأقروا له بالملك ، وتأهبوا للخروج ، (فلما فصل طالوت ) أي : انفصل من مكان إقامته ، يقال : فصل عن الموضع انفصل ، وجاوزه . قيل : وأصله فصل نفسه ، ثم كثر ، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي : كانفصل ، والباء في ( بالجنود ) ، [ ص: 264 ] للحال ، أي : والجنود مصاحبوه ، وكان عددهم سبعين ألفا ، قاله ابن عباس . أو ثمانين ألفا قاله عكرمة . أو مائة ألف ، قاله مقاتل . أو ثلاثين ألفا .

قال عكرمة : لما رأى بنو إسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه ، فقال لهم طالوت : لا يخرج معي من بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا من تزوج امرأة لم يدخل بها ، ولا صاحب زرع لم يحصده ، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها ، ولا من له أو عليه دين ، ولا كبير ، ولا عليل . فخرج معه من تقدم الاختلاف في عددهم على شرطه ، فسار بهم ، فشكوا قلة الماء وخوف العطش ، وكان الوقت قيظا ، وسلكوا مفازة ، فسألوا الله أن يجري لهم نهرا . ( قال إن الله مبتليكم بنهر ) قال وهب : هو الذي اقترحوه . وقال ابن عباس وقتادة : هو نهر بين الأردن وفلسطين . وقيل : نهر فلسطين ، قاله السدي ، وابن عباس ، أيضا . وقرأ الجمهور : ( بنهر ) ، بفتح الهاء . وقرأ مجاهد ، وحميد الأعرج ، وأبو السماك ، وغيرهم : بإسكان الهاء في جميع القرآن .

وظاهر قول طالوت : إن الله يوحي ، إمالة على قول من قال : إنه نبي ، أو يوحي إلى نبيهم ، وإخبار النبي طالوت بذلك ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه ، فجرت به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع ، فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته في الماء ، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، انتهى كلامه . وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله على طريق الجزم عن الله فمن شرب منه فليس مني ) أي : ليس من أتباعي في هذه الحرب ولا أشياعي ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو : " من غشنا فليس منا " ، " ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود " أو ليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني كأني بعضه ، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة :


إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني



( ومن لم يطعمه فإنه مني ) أي : من لم يذقه ، وطعم كل شيء ذوقه ، ومنه التطعم ، يقال : تطعمت منه أي : ذقته ، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول تطعم منه : يسهل أكله ، قال ابن الأنباري : العرب تقول : أطعمتك الماء تريد أذقتك ، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته ، قال الشاعر :


فإن شئت حرمت النساء عليكم     وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا



النقاخ : العذب ، والبرد النوم ، ويقال : ما ذقت غماضا . وفي حديث أبي ذر : " في ماء زمزم طعام طعم " وفي الحديث : " ليس لنا طعام إلا الأسودين التمر والماء " . والطعم يقع على الطعام والشراب ، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ ؛ لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب ، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم ؛ لأن الطعم ينطلق على الذوق ، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب ، إذ يحصل بإلقائه في الفم ، وإن لم يشربه ، نوع راحة .

وفي قوله : ( ومن لم يطعمه ) دلالة على أن الماء طعام ، وقد تقدم أيضا ما يدل على ذلك . واختلف في جريان الربا فيه ، فقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلا ، ولا يجوز فيه الأجل . وقال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف : يجوز ذلك . وحكى ابن العربي : أن الصحيح من مذهب مالك جريان الربا فيه . وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ويوزن ، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل .

وكأن قوله : ( فمن شرب منه ) يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر حتى لو أخذ بالكوز ، وشربه لا يكون داخلا في من شرب منه ، إذا لم يباشر الشرب من النهر ، وفي مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه إن قال : إن شربت من القربة فعبدي حر ، يحمل على الكروع ، وإن اغترف منه ، أو شرب بإناء لم يحنث . قالوا : لأنه تعالى حظر الشرب من النهر ، وحظر مع ذلك أن يطعم منه ، واستثنى من الطعم منه الاغتراف ، فحظر الشرب باق ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب ، وأتى بقوله : ( ومن لم ) معدى لضمير الماء ، لا إلى النهر ، ليزيل ذلك [ ص: 265 ] الإبهام ، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر ، بمباشرة الشرب منه أو بواسطة . قال ابن عطية : وفي قوله : ( ومن لم يطعمه فإنه مني ) سد الذرائع ؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ، ولهذه المبالغة ، لم يأت الكلام : ومن لم يشرب منه ، انتهى كلامه .

( إلا من اغترف غرفة بيده ) هذا استثناء من الجملة الأولى ، وهي قوله : ( فمن شرب منه فليس مني ) والمعنى : أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني ، والاستثناء إذا اعتقب جملتين أو جملا ، يمكن عوده إلى كل واحدة منها ، فإنه يتعلق بالأخيرة ، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه ، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه ، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى ، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى ؛ لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم ؛ لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر ، وأن من شرب منه فليس منه ، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه ، فصارت الجملة الثانية كالفصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى ، حتى إنها لو لم يكن مصرحا بها لفهمت من الجملة الأولى ، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه : إلا من اغترف . استثناء من الأولى ، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية ، انتهى . ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية ؛ لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه ، والأمر ليس كذلك ؛ لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه ، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ؛ لأنه حكم فيها أن من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه ؛ إذ هو مفسوح له في ذلك ، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة . وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلا من اغترف غرفة بيده فشربها ، أو للشرب .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ( غرفة ) ، بفتح الغين ، وقرأ الباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما تحمله اليد ، فإذا كان مصدرا فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف محذوفا ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولا به ، قال ابن عطية : وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضا : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف ، انتهى .

وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ؛ لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة ، ويتعلق ( بيده ) بقوله : ( اغترف ) . قيل : ويجوز أن يكون نعتا لغرفة ، فيتعلق بالمحذوف . وظاهر : ( غرفة بيده ) الاقتصار على غرفة واحدة ، وأنها تكون باليد ، قال ابن عباس ، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال مقاتل : ويملأ منها قربته ، قيل : فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء ، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان ، قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظ ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك ؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلي به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه ، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان .

( فشربوا منه إلا قليلا ) أي : كرعوا فيه ، ظاهره أن الأكثر شربوا ، وأن القليل لم يشربوا ، ويحمل الشرب الذي [ ص: 266 ] وقع من أكثرهم على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه ، ووقع به المخالفة ، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه ، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم يطعمه ألبتة والثاني : الذي اغترفوا بأيديهم ، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس ، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة ; فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله ، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة . وقيل الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم ، فلم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا عن لقاء العدو ، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح . وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلا القليل الذين لم يشربوا . والقليل المستثنى أربعة آلاف ، قاله عكرمة والسدي ، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر .

وقرأ عبد الله ، وأبي والأعمش : ( إلا قليل ) بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان معنى ( فشربوا منه ) في معنى ( فلم يطيعوه ) حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . ونحوه قول الفرزدق :


( وعض زمان يا ابن مروان ) لم يدع     من المال إلا مسحتا أو مجلف



كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف انتهى كلامه .

والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه ، هو في معنى المنفي ، كأنه قيل : فلم يطيعوه ، فارتفع ( قليل ) على هذا المعنى ، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد إلا ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى ، فالموجب فيه كالمنفي ، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد إلا على التأويل هنا دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب ، فلذلك تأوله ، ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد إلا وجهان : أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح ، والثاني : أن يكون ما بعد إلا تابعا لإعراب المستثنى منه ، إن رفعا فرفع ، أو نصبا فنصب ، أو جرا فجر ، فتقول : قام القوم إلا زيد ، ورأيت القوم إلا زيدا ، ومررت بالقوم إلا زيد ، وسواء كان ما قبل إلا مظهرا أو مضمرا . واختلفوا في إعرابه ، فقيل : هو تابع على أنه نعت لما قبله ، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة . وقال : ينعت بما بعد ( إلا ) الظاهر والمضمر ، ومنهم من قال : لا ينعت به إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإن كان معرفة بالإضافة نحو : قام إخوتك ، أو بالألف واللام [ ص: 267 ] للعهد ، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس ، فلا يجوز الاتباع ، ويلزم النصب على الاستثناء . ومنهم من قال : إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ، ومن الاتباع بعد الموجب قوله :


وكل أخ مفارقه أخوه     لعمر أبيك إلا الفرقدان



وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو ، وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي ، لا نضطر إليه ، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية