صفحة جزء
( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه ، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق الله . والمعنى : أنا لا نكترث ب جالوت وجنوده وإن كثروا ، فإن الكثرة ليست سببا للانتصار ، فكثيرا ما انتصر القليل على الكثير ; ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك ، أخبروا بصيغة : كم ، المقتضية للتكثير . وقرأ أبي : ( وكأين ) ، وهي مرادفة لكم في التكثير ، ولم يأت تمييزها في القرآن [ ص: 268 ] إلا مصحوبا بمن ، ولو حذفت ( من ) لانجر تمييز كم الخبرية بالإضافة ، وقيل : بإضمار ( من ) ويجوز نصبه حملا على كم الاستفهامية ، وانتصب تمييز كأين ، فتقول : كأين رجلا جاءك ، قال الشاعر :


أطرد اليأس بالرجا فكأين أملا حم يسره بعد عسر



و ( كم ) في موضع رفع على الابتداء ، و ( من ) في ( من فئة ) قيل : زائدة وليس من مواضع زيادتها . وقيل : في موضع الصفة لـ ( كم ) ، و ( فئة ) هنا مفرد في معنى الجمع ، كأنه قيل : كثير من فئات قليلة غلبت . وقرأ الأعشى فيه بإبدال الهمزة ياء ، نحو : ميرة في مئرة ، وهو إبدال نفيس ، وخبر ( كم ) قوله : ( غلبت ) ومعنى ( بإذن الله ) بتمكينه وتسويفه الغلبة . وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال ، إن شاء الله تعالى .

( والله مع الصابرين ) تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا من الله ، قاله القفال . ( ولما برزوا لجالوت وجنوده ) صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى ، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه ، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس ، وقيل : مائة ألف ، وقال عكرمة : تسعين ألفا . ( قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ) الصبر هنا : حبس النفس للقتال ، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك ، ففي ذلك إشعار بالعبودية . وقولهم : ( أفرغ علينا صبرا ) سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعليا عليهم ، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه .

( وثبت أقدامنا ) فلا تزل عن مداحض القتال ، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها ، ولما سألوا ما يكون مستعليا عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها . ( وانصرنا على القوم الكافرين ) أي : أعنا عليهم ، وجاءوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم ، وهو الكفر ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وفي قولهم : ( ربنا ) إقرار لله تعالى بالوحدانية ، وإقرار له بالعبودية .

التالي السابق


الخدمات العلمية