صفحة جزء
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ) على المجازاة . وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الإنساني كان عابدا لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعا له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه . فنادى تعالى دعاء عاما للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سببا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة . ومن كان قادرا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقى . ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وإلفه له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه . والظاهر في الناس : العموم ؛ لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان . وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كأن صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : ( تساءلون به والأرحام ) لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك . يقول : أنشدك بالله وبالرحم . وقيل : المراد المؤمنون نظرا إلى قوله : ( إنما المؤمنون إخوة ) وقوله : ( المسلم أخو المسلم ) والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بـ ( ياأيها الناس ) ، وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية [ ص: 154 ] والربوبية ؛ لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا ، نحو : ( يا أيها الناس إن وعد الله حق ) ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) وإذا كان الخطاب للمؤمنين ؛ أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .

قيل : وجعل هذا المطلع مطلعا لسورتين : إحداهما : هذه ، وهي الرابعة من النصف الأول . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني . وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد . وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامة فيما يتقى من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد . وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله . فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة .

وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة . وقال مقاتل : الخشية . وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر . والمراد بقوله : من نفس واحدة - آدم . وقرأ الجمهور : ( واحدة ) بالتاء على تأنيث لفظ النفس . وقرأ ابن أبي عبلة : ( واحد ) على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس . ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :


إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي



قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع . وعلى أنا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل ، انتهى . وقالالأصم : لا يدل العقل على أن الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع . ولما كان أميا ما قرأ كتابا ، كان معنى ( خلقكم ) دليلا على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلا على النبوة . انتهى .

وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ، ودلالة على المعاد ؛ لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى . و ( زوجها ) : هي حواء . وظاهر منها ابتداء خلق حواء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، والسدي ، قالوا : إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله . وقيل : من يمينه ، فخلق منها حواء . قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . انتهى . ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل . ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حواء . وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها ، قاله ابن بحر وأبو مسلم لقوله : ( من أنفسكم أزواجا ) و ( رسولا منهم ) . قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة . ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال ( خلقكم من نفس واحدة ) . ولما كان قادرا على خلق آدم من التراب كان قادرا على خلق حواء أيضا [ ص: 155 ] كذلك . وقيل : لا حذف ، والضمير في ( منها ) ، ليس عائدا على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم . وخلقت منها حواء ، أي أنها خلقت مما خلق منه آدم . وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت و آدم في الجنة ، وبه قال ابن مسعود . وقيل : قبل دخوله الجنة ، وبه قال كعب الأحبار ، و وهب ، وابن إسحاق . وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أن خلق حواء كان قبل خلق الناس . إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعا بعد خلق حواء ؛ لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم . فكان ذكر ما تعلق بهم أولا آكد ، ونظيره : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) ومعلوم أن خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم . ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولا ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم . وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخرا عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفا عليه محذوفا متقدما على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعها . ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية . وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على ( خلقكم ) . ويكون الخطاب في : ( ياأيها الناس ) الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء . انتهى . ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفا على اسم الفاعل الذي هو ( واحدة ) التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت . وخلق منها زوجها ، فيكون نظير ( صافات ويقبضن ) وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد .

ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة ) وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب . وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) وقوله : ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ) ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب . وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى . انتهى . وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه . وبث منهما أي من تلك النفس وزوجها ، أي : نشر وفرق في الوجود . ويقال : أبث الله الخلق ، رباعيا ، وبث ، ثلاثيا ، وهو الوارد في القرآن رجالا كثيرا ونساء قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص ( رجالا ) بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة . وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحا ، لأنه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء . وفي تنويع ما خلق من آدم وحواء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإن وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين . وقرئ : ( وخالق منها زوجها وباث ) على اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق .

التالي السابق


الخدمات العلمية