الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) كرر الأمر بالتقوى تأكيدا للأول . وقيل : لاختلاف التعليل وذكر [ ص: 156 ] أولا ( الرب ) الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانيا ( الله ) الذي يدل على القهر والهيبة . بنى أولا على الترغيب ، وثانيا على الترهيب . كقوله : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) و ( يدعوننا رغبا ورهبا ) كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب . وقرأ الجمهور من السبعة : ( تساءلون ) . وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون .

قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة . قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس . قال العجاج :


لو عرضت لأسقفي قس أشعث في هيكله مندس


حن إليها كحنين الطس

انتهى . أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية ، فهذا مذهب أهل البصرة . وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أن المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها [ ص: 157 ] في علم النحو . وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم . والحذف لاجتماع المثلين ، وظاهر كلامه اختصاص الإدغام والحذف بـ ( تتفاعلون ) وليس كذلك . أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر . وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة - ظاهره تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك . أما إن كان تعليلا فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة . وأما إن كان تعليلا لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا .

وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل . وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت .

ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضا . أو يقول : أسألك بالله أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك ، أي : تسأله بالله ، ويسألك بالله . وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظما لها . وقرأ عبد الله : ( تسألون به ) مضارع ( سأل ) الثلاثي . وقرئ : ( تسلون ) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين . قال ابن عباس : معنى ( تساءلون به ) أي : تتعاطفون . وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون .

وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم .

والأرحام ، قرأ جمهور السبعة بنصب الميم .

وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش .

وقرأ الأعمش بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا الله ، وقطع الأرحام . وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس والسدي وغيرهم .

والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ؛ لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضا : إنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا الله ، أي اتقوا مخالفة الله . وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله : ( لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى ) كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق .

وفي الحديث : ( من أبر ؟ قال : أمك ) وفيه : ( أنت ومالك لأبيك ) ، وقال تعالى في ذم من أضله من الفاسقين ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . وقيل : النصب عطفا على موضع ( به ) كما تقول : مررت بزيد وعمرا . لما لم يشاركه في الإتباع على اللفظ أتبع على موضعه . ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : ( تساءلون به وبالأرحام ) . أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف ، قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل . وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقى ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى . وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد . ويؤيده قراءة عبد الله : ( وبالأرحام ) . وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم .

قال الزمخشري : وليس بسديد ، يعني الجر عطفا على الضمير . قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد - شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال [ ص: 158 ] لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد . ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيدا ، ومررت بزيد وعمرو ، لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر :


فما بك والأيام من عجب

وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ؛ لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه . فكما لا يجوز مررت بزيد وك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال :


فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا     فاذهب فما بك والأيام من عجب



وكما قال :


تعلق في مثل السواري سيوفنا     وما بينها والكف غوط تعانف



واستسهلها بعض النحويين . انتهى كلام ابن عطية . وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيدا ، ولا يجوز رأيت زيدا وك ، فكان القياس رأيتك وزيدا - أن لا يجوز . وقال ابن عطية أيضا : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف .

ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة . والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله : ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) انتهى كلامه . وذهبت طائفة إلى أن الواو في ( والأرحام ) واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده . ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فرارا من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهابا إلى أن في القسم بها تنبيها على صلتها وتعظيما لشأنها ، وأنها من الله تعالى بمكان . قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره . انتهى . وما ذهب إليه أهل [ ص: 159 ] البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهبالكوفيين في ذلك وأنه يجوز . وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : ( وكفر به والمسجد الحرام ) . وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه ؛ إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة : عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ، وأقرأ الصحابة أبي بن كعب - عمد إلى ردها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة ك الزمخشري ، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم . و حمزة رضي الله عنه أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، و حمران بن أعين ، و محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، و جعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر . وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة ، منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة ، منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي . وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض . وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع غمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظنا بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك . ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ .

( إن الله كان عليكم رقيبا ) لا يراد بـ ( كان ) تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع ( كان ) ذلك ، بل المعنى على الديمومة ، فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات . وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه

التالي السابق


الخدمات العلمية