صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) روى البخاري ومسلم : أن رجلا من سليم مر على نفر من الصحابة ومعه غنم ؛ فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم إلا ليتعوذ فقتلوه ، وأخذوا غنمه ، وأتوا بها الرسول فنزلت . وقيل بعث سرية فيها المقداد ؛ فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فتشهد ؛ فقتله المقداد ؛ فأخبر الرسول عليه السلام بذلك فقال : أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله ؛ فكيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ . وقيل لقي الصحابة المشركين فهزموهم ؛ فشد رجل منهم على رجل ؛ فلما غشيه السنان قال : إني مسلم ؛ فقتله وأخذ متاعه ؛ فرفع ذلك إلى الرسول فقال : قتلته وقد زعم أنه مسلم ؟ فقال : قالها متعوذا قال : " هلا شققت عن قلبه ؟ في قصة آخرها : إن القاتل مات فلفظته الأرض مرتين أو ثلاثا ؛ فطرح في بعض الشعاب . وقيل هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهل فدك ، وهي مشهورة . وقيل بعث الرسول عليه السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ، ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم ؛ فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام ؛ فقتله محلم وسلبه ؛ فلما قدموا قال : أقتلته بعدما قال آمنت ؟ فنزلت .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ؛ وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنا متعمدا ، وأن له جهنم ، وذكر غضب الله عليه ، ولعنته ، وإعداد العذاب العظيم له ؛ أمر المؤمنين بالتثبت والتبين ، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان ، وأن لا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف ، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه . ولما كان خفاء ذلك منوطا بالأسفار والغمزات ، قال : إذا ضربتم في الأرض وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر . وتقدم تفسير الضرب في قوله : ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) .

وقرأ حمزة ، والكسائي : فتثبتوا بالثاء المثلثة ، والباقون : فتبينوا . وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب ; أي اطلبوا إثبات الأمر وبيانه ، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح . وقال قوم : ( تبينوا ) أبلغ وأشد من ( فتثبتوا ) ; لأن المتثبت قد لا يتبين . وقال الراغب ; لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت ، وقد يكون التثبت ولا تبين ، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه السلام : التبين من الله والعجلة من الشيطان . وقال أبو عبيد هما : متقاربان . قال ابن عطية : والصحيح ما قال أبو عبيد ; لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان ، بل يقتضي محاولة للتبين ؛ كما أن تثبت يقتضي محاولة للتبين ؛ فهما سواء . وقال أبو علي الفارسي : التثبت هو خلاف الإقدام والمراد : التأني والتثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع . ومما يبين ذلك قوله : (وأشد تثبيتا ) ; أي أشد وقفا لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه . وكلام الناس تثبت في أمرك . وقد جاء : إن التبين من الله والعجلة من الشيطان ؛ ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارب اللفظين .

والأكثرون على أن القاتل ه و محلم والمقتول عامر كما ذكرنا ؛ وكذا هو في سير ابن إسحاق ، ومصنف أبي داود ، وفي الاستيعاب . وقيل : المقتول مرداس وقاتله أسامة . وقيل قاتله غالب بن فضالة الليثي . وقيل القاتل أبو الدرداء . وقيل أبو قتادة .

وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي وحفص ( السلام ) بألف . قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وابن كثير . من بعض طرقه ، وجبلة عن المفضل عن عاصم : بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام . وقرأ أبان بن زيد ، عن عاصم : بكسر السين ، [ ص: 329 ] وإسكان اللام ، وهو الانقياد والطاعة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك ؛ قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا . قال أبو عبد الله الرازي ; أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنا ؛ وأصله من السلامة ; لأن المعتزل عن الناس طالب للسلامة . وقرأ الجحدري : بفتح السين ، وسكون اللام . وقرأ أبو جعفر : مأمنا بفتح الميم ; أي لا نؤمنك في نفسك ، وهي قراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، ويحيى بن يعمر . ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفا من القتل . قال أبو بكر الرازي : حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين ؛ وإن كان في الغيب على خلافه . وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام ، فهو مسلم انتهى . والغرض هنا هو ما كان مع المقتول من غنيمة أو من حمل ومتاع ، على الخلاف الذي في سبب النزول .

والمعنى : تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع الزوال . وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير ( ولا تقولوا ) ؛ وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلى ترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا ؛ فعند الله مغانم كثيرة ؛ هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت ؛ قاله الجمهور . وقال مقاتل : أراد ما أعده تعالى لهم في الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجل المغانم .

( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ) قال ابن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ؛ خائفين منهم على أنفسكم ؛ فمن الله عليكم بإعزاز دينكم ، فهم الآن كذلك كل منهم خائف في قومه متربص أن يصل إليكم ؛ فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه ، حتى تتبينوا أمره .

قال أبو عبد الله الرازي : وهذا فيه إشكال ; لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم ، انتهى . ولا إشكال فيه ; لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم ؛ فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى . وعلى تقدير تسليم أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم ؛ لا إشكال أيضا ; لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم . وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمن الله عليكم بأن أسلمتم ؛ فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم ؛ فيجب أن يتثبت في أمره ، وقال الأكثرون : المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله ؛ فاقبلوا منهم ذلك . وقال أبو عبد الله الرازي : فيه إشكال ; لأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم ; لأنا آمنا اختيارا ؛ وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى . ولا إشكال في ذلك ; لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه ; إذ كان يكون المشبه هو المشبه به ؛ وذلك محال ، ولا من معظم الوجوه . والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه ؛ وهو : أن الدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة ، وقد حسن الزمخشري هذا القول ؛ وطوله جدا . فقال : أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ؛ فحصنت دماءكم وأموالكم ، من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ؛ فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم ؛ وإن صرتم أعلاما فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكافة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله ، وقد حرمهما الله تعالى ، انتهى .

قال أبو عبد الله الرازي : والأقرب عندي أن يقال : إن من ينتقل عن دين إلى دين ؛ ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ؛ فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم من الله عليكم بتقوية ذلك الميل ، وتأكيد النفرة عن الكفر ؛ فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا [ ص: 330 ] منهم هذا الإيمان ؛ فإن الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم ، انتهى كلامه . وليس كل من آمن من الصحابة كان ميله أولا إلى الإسلام ميلا ضعيفا ثم يقوى ، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلة دعاء الرسول ، أو رأى الرسول كأبي بكر ، وأبي ذر ، وعبد الله بن سلام ، وأمثالهم ممن كان مستبصرا منتظرا . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ; أي على هذه الحال في جاهليتكم لا تثبتون ؛ حتى جاء الإسلام ، ومن الله عليكم ، انتهى . والظاهر أن قوله : فمن الله عليكم ، هو من تمام ( كذلك كنتم من قبل ) . وقيل من تمام ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) ، وما قبله ؛ فالمعنى : من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر ؛ قاله أبو عبد الله الرازي ، فتبينوا : تقدم أنه قرئ فتثبتوا . ويحتمل أن يكون هذا تأكيدا للأول ، ويحتمل أن يكون ( فتبينوا ) في قراءة من جعله من التبين أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين ؛ فالمعنى في الأول : فتبينوا أمر من تقدمون على قتله ، وفي الثاني : فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام .

( إن الله كان بما تعملون خبيرا ) ; أي خبيرا بنياتكم وطلباتكم ؛ فكونوا محتاطين فيما تقصدونه ؛ متوخين أمر الله تعالى . وهذا فيه تحذير ؛ فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل . وقرأ الجمهور : ( إن ) بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرئ بفتحها على أن تكون معمولة لقوله : ( فتبينوا ) .

( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد ؟ .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدا بغير تأويل وبتأويل ؛ فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام ؛ إذا كان ظاهره يدل على ذلك . ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنا خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعس عن الجهاد لهذه الشبهة ؛ فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد ، وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم دفعا لهذه الشبهة .

ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم المساواة ، وكذلك نفيه ؛ وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد . فالمتأمل يبقى مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما والقاعد هو المتخلف عن الجهاد . وعبر عن ذلك بالقعود ; لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب . وأولو الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض أو عرج أو فقد أهبة . والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : ( غير ) برفع الراء . ونافع وابن عامر والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم . وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها . فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ؛ وهو قول سيبويه ؛ كما هي عنده صفة في ( غير المغضوب عليهم ) ، ومثله قول لبيد :


وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى غير الجمل

كذا ذكره أبو علي ، ويروى : ليس الجمل . وأجاز بعض النحويين فيه البدل . قيل : وهو إعراب ظاهر ; لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أن الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء ، ثم الوصف في رتبة ثالثة . الثاني : أنه قد تقرر أن غيرا نكرة في [ ص: 331 ] أصل الوضع ، وإن أضيفت إلى معرفة ؛ هذا هو المشهور ، ومذهب سيبويه . وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ؛ فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها ؛ إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أن القاعدين لما لم يكونوا ناسا معينين ؛ كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجري مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف .

وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين . وقيل استثناء من المؤمنين . والأول أظهر ; لأنه المحدث عنه . وقيل انتصب على الحال من القاعدين . وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ؛ كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من ( الذين أنعمت عليهم ) ، ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون ; أي كائنين من المؤمنين .

واختلفوا : هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا ؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أن الاستثناء من النفي إثبات ؛ لزمت المساواة . وقال ابن عطية : وهذا مردود ; لأن الضرر لا يساوون المجاهدين . وغايتهم إن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب . المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ; إذ كان يتمنى لو كان قادرا لخرج . قال : استثنى المعذور من القاعدين والاستثناء من النفي إثبات ؛ فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور . انتهى . وإنما نفى الاستواء فيما علم أنه منتف ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر والمجاهد من التفاوت العظيم ؛ فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ، ويرغب فيه . ومثله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) أريد به التحريك من حمية الجاهل ، وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم .

قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعا وإلا لم يكن لقوله : لا يستوي معنى ; لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ؛ بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب . وقال الماتريدي : نفي التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه لا يدل على أن الجهاد ما كان فرضا في ذلك الوقت . ألا ترى أن قوله تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) نفى المساواة بين المؤمن والفاسق والإيمان فرضا . وقال تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) الآية ، وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض . وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض ، وتاركه بطريق الأولى ؛ وإنما لم يلحق الإثم تاركه ; لأنه فرض كفاية ، انتهى . والظاهر أن نفي هذا الاستواء ليس مخصوصا بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهادا مخصوصا بل ذلك عام .

وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . وعن مقاتل : إلى تبوك . وقال ابن عباس وغيره : أولو الضرر هم أهل الأعذار . إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وفي الحديث : لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر . وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس . وفي قوله : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ; لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد ؛ فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب . والمشتري قدمت له النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد ؛ وإنما يرغب أولا في الأنفس الغالي .

( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) الظاهر أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ; لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ؛ فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم [ ص: 332 ] بدرجة ؛ فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ؛ كأن قائلا قال : ما لهم لا يستوون ؟ فقيل ( فضل الله المجاهدين ) والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخرا درجات وما بعدها ، وهم القاعدون غير أولي الضرر . وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ؛ فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ؛ فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير . وقيل المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ؛ كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه ، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ، ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ؛ فلهم درجات بحسب استحقاقهم ؛ فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط . فكأن الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ؛ وعلى هذا نبه بقوله : ( هم درجات عند الله ) . ومنازل الآخرة تتفاوت . وقيل الدرجة المدح والتعظيم والدرجات منازل الجنة . وقيل المفضل عليهم أولا غير المفضل عليهم ثانيا . فالأول هم القاعدون بعذر والثاني هم القاعدون بغير عذر ؛ ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولو الضرر والمجاهدون .

وقيل اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به . وذلك أن الجهاد جهادان : صغير وكبير ؛ فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس . وعلى ذلك دل قوله عليه السلام : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ؛ وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ; لأن من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ؛ فخص مجاهدة النفس بالدرجات تعظيما لها . وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ؛ كأنه قيل ما لهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف . ثم قال : فإن قلت : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات ، من هم ؟ قلت : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ; لأن الغزو فرض كفاية ، انتهى كلامه . فقال : أولا المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض . والظاهر أن قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ؛ بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين . وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ) الآيات . وقال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه ، انتهى . وقال ابن محيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ؛ كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة . وإلى نحوه ذهب مقاتل ، ورجحه الطبري . وفي الحديث الصحيح : أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض . وذهب بعض العلماء إلى أن قوله : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه هو على سبيل التوكيد ، لا أن مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ؛ بل هما سواء في المعنى . قال تعالى : ( وللرجال عليهن درجة ) لا يراد بها شيء واحد ؛ بل أشياء . وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أن الجهاد فرض كفاية ؛ حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل الله يعم ، انتهى .

( وكلا وعد الله الحسنى ) ; أي ( وكلا ) من القاعدين والمجاهدين . وقيل ( وكلا ) من [ ص: 333 ] القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر والمجاهدين . والحسنى هنا : الجنة باتفاق . وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة . ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلا جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ؛ فكذلك يختص بالثواب . فبين أن للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بين أن لهم فضل درجات ; لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أن حالهما في الوعد بالحسنى سواء ، انتهى . وانتصب كلا على أنه مفعول أول لـ ( وعد ) والثاني هو الحسنى . وقرئ : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد ; أي وكلهم وعد الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية