الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) قيل الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة والمغفرة باعتبار ستر الذنب والرحمة باعتبار دخول الجنة . والظاهر أن هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله ، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك . ومن المعلوم أن من جاهد ، ومن أنفق ماله في الجهاد ، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره .

وفي انتصاب درجة ، ودرجات وجوه ; أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ؛ كأنه قيل فضلهم تفضيله . كما تقول : ضربته سوطا ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطا تعني : ضربات . والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال ; أي ذوي درجة وذوي درجات . والثالث : على تقدير حرف الجر أي بدرجة وبدرجات . والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ; إذ وقعا موقعه ; أي في درجة وفي درجات . وقيل انتصاب درجات على البدل من أجرا قيل ( ومغفرة ورحمة ) معطوفان على درجات . وقيل انتصبا بإضمار فعلهما ; أي غفر ذنبهم مغفرة ، ورحمهم رحمة . وأما انتصاب أجرا عظيما فقيل على المصدر ; لأن معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى لا من اللفظ . وقيل على إسقاط حرف الجر أي بأجر . وقيل مفعول بفضلهم لتضمينه معنى ( أعطاهم ) . قال الزمخشري : ونصب ( أجرا عظيما ) على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدمة عليها ، انتهى . وهذا لا يظهر ; لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتا لعدم المطابقة ; لأن أجرا عظيما مفرد ، ولا يكون نعتا لدرجات لأنها جمع . وقال ابن عطية : ونصب درجات ؛ إما على البدل من الأجر ، وإما بإضمار فعل ( على ) أن يكون تأكيدا للأجر ، كما نقول لك : علي ألف درهم عرفا ؛ كأنك قلت : أعرفها عرفا انتهى . وهذا فيه نظر .

( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) روى البخاري عن ابن عباس : أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم ، أو يضرب فيقتل ؛ فنزلت . وقيل قوم من أهل مكة أسلموا ؛ فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة ؛ فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار ؛ فقتلوا ببدر فنزلت . قال عكرمة : نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر : قيس بن النائحة بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف . وقال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ؛ فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ؛ أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد ، وسكن في بلاد الكفر . قال ابن عباس ، ومقاتل : التوفي هنا قبض الأرواح . وقال الحسن : الحشر إلى النار . والملائكة هنا قيل ملك الموت ، وهو من باب إطلاق الجمع على الواحدة تفخيما له ، وتعظيما لشأنه ؛ لقوله تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) هذا قول الجمهور . وقيل المراد ملك الموت ، وأعوانه ، وهم ستة ؛ ثلاثة لأرواح [ ص: 334 ] المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين . ويشهد لهذا ( توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) ، وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال ، أو برجوعهم إلى الكفر ، أو بشكهم ، أو بإعانة المشركين ، أقوال أربعة : وتوفاهم : ماض لقراءة من قرأ توفتهم ، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل ، ولكون تأنيث الملائكة مجازا ، أو مضارع ، وأصله تتوفاهم .

وقرأ إبراهيم : توفاهم بضم التاء مضارع وفيت ؛ والمعنى : إن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها . والضمير في ( قالوا ) للملائكة ، والجملة خبر إن ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى ؛ التقدير : قالوا : قالوا لهم فيم كنتم ؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع . والمعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ وقيل إن أحوال الدنيا ، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة ، وإقامتهم بدار الكفر ، وهو اعتذار غير صحيح .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح وقوع قوله : كنا مستضعفين في الأرض جوابا عن قولهم : فيم كنتم ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، ولم يكن في شيء ؟ قلت : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ، ولم يهاجروا ؛ فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، انتهى كلامه . والذي يظهر أن قولهم : كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله : فيم كنتم على المعنى ، لا على اللفظ ; لأن معنى : فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم ، قالوا : كنا مستضعفين ; أي في حالة استضعاف في الأرض ، بحيث لا نقدر على الهجرة ، وهو جواب كذب والأرض هنا أرض مكة . ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) هذا تبكيت من الملائكة لهم ، ورد لما اعتذروا به ; أي لستم مستضعفين ، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة . ومعنى فتهاجروا فيها ; أي في قطر من أقطارها ، بحيث تأمنون على دينكم . وقيل أرض الله أي المدينة . واسعة آمنة لكم من العدو فتخرجوا إليها . وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا ؟ أو منافقون ، أو مشركون ؟ ثلاثة أقوال . الثالث قاله الحسن . قال ابن عطية : قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون ، ولو كانوا كفارا لم يقل لهم شيء من ذلك ، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، واحتمال ردته . انتهى ملخصا . وقال السدي : يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرا حتى يهاجر إلا من لا يستطيع حيلة ، ولا يهتدي سبيلا ، انتهى . قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأصول أن من ارتد من أولئك كافر ، ومأواه جهنم على جهة الخلود ، ومن كان مؤمنا فمات بمكة ولم يهاجر ، أو أخرج كرها فقتل عاص مأواه جهنم دون خلود . ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي . وفي الآية دليل على أن من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب وجبت عليه الهجرة . وروي في الحديث من فر بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ، ونبيه محمد .

( فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) الفاء للعطف ؛ عطفت جملة على جملة . وقيل ( فأولئك ) خبر ( إن ) ، ودخلت الفاء في خبر إن تشبيها لاسمها باسم الشرط ، وقالوا : فيم كنتم حال من الملائكة ، أو صفة لظالمي أنفسهم أي ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة : فيم كنتم ؟ وقيل خبر إن محذوف تقديره : هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : قالوا فيم كنتم .

[ ص: 335 ] ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) من الرجال جماعة ؛ كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد . ومن النساء جماعة : كأم الفضل أمامة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس . ومن الولدان : عبد الله بن عباس وغيره . فإن أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد بخلاف الرجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين ؛ وإنما ذكروا مع الرجال والنساء ، وإن كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أن عجزهم هو عجز لآبائهم الرجال والنساء ; لأن من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة كون الرجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم . فذكر الولدان في المستثنين ، تنبيه على أعظم طرق العجز للرجال والنساء ; لأن طرق العجز لا تنحصر ؛ فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف ، انتهى . وليس بجيد ; لأن المراهق لا يلحق بالمكلف أصلا ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف . وقيل يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم . وهذا الاستثناء قال الزجاج : هو من قوله : ( مأواهم جهنم ) . قال غيره : كأنه قيل فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ؛ فعلى هذا استثناء متصل . والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ; لأن قوله : ( إن الذين توفاهم الملائكة ) إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم . وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة ، وهم قادرون ؛ فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون ; لأنهم عاجزون ، فهو منقطع .

لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل هنا طريق المدينة قاله مجاهد والسدي . وغيرهما . قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ؛ يعني المخلصة من دار الكفر ، انتهى . وقيل لا يعرفون طريقا إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل مستأنفة ، وقيل في موضع الحال . وقال الزمخشري : صفة للمستضعفين ، أو الرجال والنساء والولدان . قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ; لأن الموصوف ، وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :


ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى كلامه .

وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) ، وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة . والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ; لأنها في معنى : إلا الذين استضعفوا فجاء بيانا وتفسيرا لذلك ; لأن الاستضعاف يكون بوجوه فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة ، وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل . والثاني مندرج تحت الأول ; لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ؛ فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي [ ص: 336 ] الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم .

( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) عسى : كلمة إطماع وترجية ، وأتى بها ، وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أن ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني . وقيل معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم ، كما قال : إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

( وكان الله عفوا غفورا ) تأكيد في وقع عفوه عن هؤلاء ، وتنبيه على أن هذا المترجى هو واقع ; لأنه تعالى لم يزل متصفا بالعفو والمغفرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية