صفحة جزء
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) قيل نزلت في أكثم بن صيفي ، ولما رغب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ، ومفارقة الوطن من الشدة ، وهذا مقرر ما قالته الملائكة : ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) .

ومعنى مراغما : متحولا ومذهبا ؛ قاله ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم . وقال مجاهد : المزحزح عما يكره . وقال ابن زيد : المهاجر . وقال السدي : المبتغى للمعيشة . وقرأ الجراح ونبيح والحسن بن عمران : مرغما على وزن مفعل كمذهب . قال ابن جني : هو على حذف الزوائد من راغم . والسعة هنا في الرزق ؛ قاله ابن عباس والضحاك والربيع ، وغيرهم . وقال قتادة : سعة من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . قال ابن عطية : والمشبه لفصاحة العرب ، أن يريد سعة الأرض ، وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون السعة في الرزق ، واتساع الصدر عن همومه وفكره ، وغير ذلك من وجوه الفرح . ونحو هذا المعنى قول الشاعر :


لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض

انتهى . وقدم مراغمة الأعداء على سعة العيش ; لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة .

( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) قيل نزلت في جندب بن ضمرة ، وتقدمت قصته قبل . وقيل في ضمرة بن بغيض . وقيل أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي . وقيل خالد بن حرام بن خويلد أخو حكيم بن حرام خرج مهاجرا إلى الحبشة ؛ فمات في الطريق . وقيل ضمرة بن ضمرة بن نعيم . وقيل ضمرة بن خزاعة . وقيل رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا هو أقام في أهله حتى دفن . والصحيح : أنه ضمرة بن بغيض ، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع ; لأن عكرمة سأل عنه أربع عشرة سنة وصححه . وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله ، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه ، ووصول الثواب إليه فضلا من الله ، وتكريما . وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة . وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف : ( ثم يدركه ) برفع الكاف . قال ابن جني : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ; أي ثم هو يدركه الموت ، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم وفاعله . وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى :


إن تركبوا فركوب الخير عادتنا     أو تنزلون فإنا معشر نزل

المراد : أو أنتم تنزلون ، وعليه قول الآخر :


إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم     فما علي بذنب عندكم قوت

المعنى : ثم أنتم يأتيني نعيقكم . وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك ، انتهى . وخرج على وجه آخر وهو : [ ص: 337 ] أن رفع الكاف منقول من الهاء ؛ كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله :


من عرى سلبي لم أضربه

( يريد : لم أضربه ؛ فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ونبيح والجراح : ( ثم يدركه ) بنصب الكاف ، وذلك على إضمارات كقول الأعشى :


ويأوي إليها المستجير فيعصما

( قال ابن جني : هذا ليس بالسهل ، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه :


سأترك منزلي لبني تميم     وألحق بالحجاز فأستريحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف ، انتهى . وتقول : أجرى ثم مجرى الواو والفاء ؛ فكما جاز نصب الفعل بإضمار أن بعدهما بين الشرط وجوابه ؛ كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلوا بهذه القراءة . وقال الشاعر في الفاء :


ومن لا يقدم رجله مطمئنة     فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقال آخر في الواو :


ومن يقترب منا ويخضع نؤوه

ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما وقالوا : كل هجرة لغرض ديني من : طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة ، أو قناعة ، وزهدا في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ؛ فهي هجرة إلى الله ورسوله . وإن أدركه الموت فأجره على الله تعالى .

قيل : وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى الغزو ومات قبل القتال فله سهمه وإن لم يحضر الحرب . روي ذلك عن أهل المدينة ، وابن المبارك . وقالوا : إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة . ولا تدل هذه الآية على ذلك ؛ لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة ؛ فالسهم متعلق بالحيازة ، وهذا مات قبل أن يغنم ، ولا حجة في قوله : فقد وقع أجره على الله على ذلك ، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دار الإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب ، أنه لا يسهم له ، وقد وقع أجره على الله كما وقع أجر الذي خرج مهاجرا فمات قبل بلوغه دار الهجرة .

( وكان الله غفورا رحيما ) أي : غفورا لما سلف من ذنوبه رحيما بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته . وتضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والبديع ؛ منها الاستعارة في قوله : إذا ضربتم في سبيل الله ، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء ، والسبيل لدينه . وفي : ( لا يستوي ) عبر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي : درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي اقتضى التفضيل . وفي : ( يدركه ) استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت . وفي : فقد وقع استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر . والتكرار في اسم الله تعالى ، وفي : فتبينوا ، وفي وفضل الله المجاهدين على القاعدين . والتجنيس المماثل في : ( مغفرة ) و ( غفورا ) . والمغاير في : ( أن يعفو عنهم ) و ( عفوا ) ، وفي : ( يهاجر ) و ( مهاجرا ) . وإطلاق الجمع على الواحد في : توفاهم الملائكة على قول من قال إنه ملك الموت وحده . والاستفهام المراد منه التوبيخ في : فيم كنتم ، وفي : ألم تكن . والإشارة في كذلك وفي : فأولئك . والسؤال والجواب في : فيم كنتم وما بعدها . والحذف في عدة مواضع . ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ( [ ص: 338 ] السلاح : معروف ، وهو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح ، وخنجر ودبوس ، ونحو ذلك ، وهو مفرد مذكر ، يجمع على أسلحة ، وأفعلة جمع فعال المذكر نحو : حمار وأحمرة ، ويجوز تأنيثه . قال الطرماح :

يهز سلاحا لم يرثها كلالة يشك بها منها غموض المغابن وقال الليث : يقال للسيف وحده سلاح ، وللعصا وحدها سلاح . وقال ابن دريد : يقال : السلاح والسلح والمسلح والمسلحان ، يعني : على وزن الحمار والضلع والنعر والسلطان . ويقال : رجل سالح إذا كان معه السلاح . وقال أبو عبيدة : السلاح ما قوتل به .

( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) روى مجاهد عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، وقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم ، وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر ، الضرب في الأرض . والظاهر جواز القصر في مطلق السفر ، وبه قال أهل الظاهر .

واختلفت فقهاء الأمصار في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : تقصر في أربعة برد ؛ وذلك ثمانية وأربعون ميلا . وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاث . وقال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ، ومشي الأقدام . وقال الأوزاعي : مسيرة يوم تام ، وحكاه عن عامة العلماء . وقال الحسن والزهري : مسيرة يومين . وروي عن مالك : يوم وليلة . وقصر أنس في خمسة عشر ميلا . والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر ؛ بل يكفي مطلق السفر ؛ سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية ؛ وبه قال الأوزاعي ، وأبو حنيفة . وروي عن ابن مسعود : أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد . وقال عطاء : لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة ؛ وروي عنه : أنها تقصر في السفر المباح . وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد ، وما ضارعها من صلة رحم ، وإحياء نفس . والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما . والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل ، ولا اعتبار بمسافة معينة ولا زمان . وروي عن الحارث بن أبي ربيعة : أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله والأسود بن يزيد ، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ؛ وبه قال عطاء ، وسليمان بن موسى . والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية . وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل . والظاهر من قوله : ( فليس عليكم جناح ) أن القصر مباح . وقال مالك في المبسوط : سنة . وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن سحنون وإسماعيل القاضي : فرض ، وروي عن عمر بن عبد العزيز . والظاهر أن قوله : ( أن تقصروا ) مطلق في القصر ، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها . فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين . وقال قوم : من ركعتين في السفر إلى ركعة والركعتان في السفر تمام .

( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ظاهره أن إباحة القصر مشروطة بالخوف المذكور وإلى ذلك ذهب جماعة . ومن ذهب إلى أن القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة شرط الخوف ، وقال : تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها ، ويكون للإمام ركعتان . وقالت طائفة : لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها ؛ وإنما المراد القصر من هيئتها بترك الركوع والسجود في الإيماء ، وترك القيام إلى الركوع . وروي فعل ذلك عن ابن عباس ، وطاوس . وذهب آخرون إلى أن الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب ؛ فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء [ ص: 339 ] برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين ، ورجح هذا القول الطبري بقوله : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) ; أي بحدودها ، وهيآتها الكاملة . والحديث الصحيح يدل على أن هذا الشرط لا مفهوم له ، فلا فرق بين الخوف والأمن . وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح .

والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره . ولغة الحجاز : فتن ، ولغة تميم وربيعة وقيس : أفتن رباعيا . وقال أبو زيد : قصر من صلاته قصرا أنقص من عددها . وقال الأزهري : قصر ، وأقصر . وقرأ ابن عباس : ( أن تقصروا ) رباعيا ، وبه قرأ الضبي عن رجاله . وقرأ الزهري : ( تقصروا ) مشددا ، ومن للتبعيض . وقيل زائدة . وقيل الشرط ليس متعلقا بقصر الصلاة ، بل تم الكلام عند قوله : أن تقصروا من الصلاة ، ثم ابتدأ حكم الخوف . ويؤيده على قول أن تجارا قالوا : إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فنزلت : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، ثم انقطع الكلام . فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو : هلا شددتم عليهم ، وقد مكنوكم من ظهورهم ؟ فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم ، وأولادهم ؛ فنزلت : ( إن خفتم ) إلى قوله ( عذابا مهينا ) صلاة الخوف . ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفادا من السنة ، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة . وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم ، ومتى استقام اللفظ ، وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى ، انتهى . وليس هذا بنسخ ؛ إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط ، وهو كثير في كلام العرب . ومنه قول الشاعر :


عزيز إذا حل الخليقان حوله     بذي لحب لجأته وضواهله

وفي قراءة أبي وعبد الله : " أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم " بإسقاط ( إن خفتم ) ، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى ; أي مخافة أن يفتنكم . وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد .

( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) عدو : وصف يوصف به الواحد والجمع . قال : ( هم العدو ) . ومعنى مبينا ; أي مظهرا للعداوة ؛ بحيث إن عداوته ليست مستورة ، ولا هو يخفيها ، فمتى قدر على أذية فعلها .

( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) استدل بظاهر الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم ، وكونه هو المقيم لهم الصلاة . وهو مذهب ابن علية وأبي يوسف ; لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها وغيره من العوض ؛ فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة . وقال الجمهور : الخطاب له يتناول الأمراء بعده والضمير في فيهم عائد على الخائفين . وقيل على الضاربين في الأرض . والظاهر أن صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر ، ولا تكون في الحضر ، وإن كان خوف . وذهب إليه قوم . وذهب الجمهور إلى أن الحضر إذا كان خوف كالسفر .

ومعنى : فأقمت لهم الصلاة أقمت حدودها وهيآتها . والذي يظهر أن المعنى فأقمت بهم . وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول عن ذلك . ومعنى : فلتقم هو من القيام ، وهو الوقوف . وقيل [ ص: 340 ] فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك من قام بالأمر اهتم به ، وجعله شغله . والظاهر أن الضمير في : وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير ، ولكونها لها فيما بعدها في قوله : فإذا سجدوا . وقيل إن الضمير عائد على غيرهم ، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل . وقال النحاس : يجوز أن يكون للجميع ; لأنه أهيب للعدو : فإذا سجدوا ; أي هذه الطائفة . ومعنى سجدوا : صلوا . وفيه دليل على أن السجود قد يعبر به عن الصلاة ، ومنه : إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ; أي فليصل ركعتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية