صفحة جزء
( ولا القلائد ) قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم . وفي الحديث : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . وقال الجمهور : القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة . وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه . وحكى الطبري عن ابن عباس أن القلائد : هي الهدي المقلد ، وأنه إنما سمي هديا ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد منه . قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدي إنما يقال لما لم يقلد . وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد . وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ; أي : لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها كما قال تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هديا كان أو إنسانا ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوما عند المخاطب .

( ولا آمين البيت الحرام ) وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي ، بحذف النون للإضافة إلى البيت ; أي : ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار . قال الزمخشري : وإحلال هذه ; أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله .

( يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لـ آمين . وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم . وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها . وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد ، يبتغون رجاء الزيادة في هذا . وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله . وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معادا ، ومنهم من يبتغي الرضوان بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك بناء على ظنه . وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين . وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجل لهم العقوبة فيها . وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد ، وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة . نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم . وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان .

ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة . وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح . وقرأ حميد بن قيس والأعرج : ( تبتغون ) بالتاء خطابا للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أن المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالا لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقرأ الأعمش : ( ورضوانا ) بضم الراء ، وتقدم في آل عمران [ ص: 421 ] أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف .

( وإذا حللتم فاصطادوا ) تضمن آخر قوله : أحلت لكم ، تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : (ولا يجرمنكم ) راجعا إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة . فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكما ، لا مؤكدة مسددة ، فتكون اعتراضا ; بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام . ولا تقديم ولا تأخير هنا ، فيكون أصل التركيب : غير محلي الصيد وأنتم حرم فإذا حللتم فاصطادوا ، وفي الآية الثانية يكون أصل التركيب ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم ، كما ذهب إليه بعضهم ، وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال : ( وإذ قتلتم نفسا ) الآية ، ثم يقال : ( وإذ قال موسى لقومه ) وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي ، بل يجب ، أن ينزه القرآن عنه .

قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ . وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سوره وإن خالف في ذلك بعضهم .

والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا . انتهى . ولما كان الاصطياد مباحا ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة . وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى واقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه .

وقرئ : فإذا حللتم وهي لغة ; يقال : حل من إحرامه وأحل . وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : ( فاصطادوا ) بكسر الفاء . قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء . وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا ، بكسر الفاء ، مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل . انتهى . وليس عندي كسرا محضا بل هو من باب الإمالة المحضة ، لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في " فإذا " لوجود كسرة إذا .

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم [ ص: 422 ] أي : لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك . فيكون أن تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار . وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني ; أي : اعتداؤكم عليكم . وتتعدى أيضا إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم . وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب . وقرأ الحسن ، وإبراهيم وابن وثاب والوليد عن يعقوب : ( يجرمنكم ) بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة .

قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه . انتهى . وهذا تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر . وقرأ النحويان وابن كثير وحمزة وحفص ونافع : شنآن ، بفتح النون . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع . والأظهر في الفتح أن يكون مصدرا ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفا ، وفعلان في الأوصاف موجود ، نحو قولهم : حمار قطوان ; أي : عسير السير ، وتيس عدوان : كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر . قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم . ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنئ بمعنى البغض . وهو متعد وليس مضافا للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدرا ، فإنه يحتمل أن يكون مضافا للمفعول وهو الأظهر . ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل ; أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفا ، فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد . وحكي أيضا شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعل لازم . وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وفغر فوه بمعنى فتح وانفتح . وجوز أن يكون مصدرا ، وقد حكي في مصادر شتى ومجيء المصدر على فعلان ، بفتح الفاء وسكون العين - قليل ; قالوا : لويته دينه ليانا . وقال الأحوص :


وما الحب إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا



أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها . والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إن صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إن صدوكم ، وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسر ( إن ) ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنين عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأن مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم ؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جدا ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صد في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل . وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعا عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحا . وقرأ باقي السبعة : ( أن ) ، بفتح الهمزة ، جعلوه تعليلا للشنآن ، وهي قراءة واضحة ; أي : شنآن قوم من أجل أن صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام . والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم .

( وتعاونوا على البر والتقوى ) لما نهى عن الاعتداء أمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأن بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون . وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو . انتهى . وقال قوم : هما بمعنى واحد ، [ ص: 423 ] وكرر لاختلاف اللفظ تأكيدا . قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب . فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوز . انتهى . وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه . وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة . يعني : اتباع السنة .

( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله ; قاله عطاء . وقيل : الإثم الكفر والعصيان ، والعدوان البدعة . وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس ; قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان .

( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيدا لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب . فيجب أن يتقى ، وشدة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض . وقال مجاهد : نزلت نهيا عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل .

( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) تقدم مثل هذه الجملة في البقرة . وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع . انتهى . وليس كذلك فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفننا في الكلام واتساعا ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلا أو لا كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلا ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد .

( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات . قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها . وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ . وقال مالك وغيره من الفقهاء : في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في المعراض : " وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ " . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم . وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان . قال ابن عطية : كل ما مات ضغطا فهو نطيح . وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : ( والمنطوحة ) .

والمعني في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه . ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها . وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : ( السبع ) بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ عبد الله : ( وأكيلة السبع ) . وقرأ ابن عباس : ( وأكيل السبع ) وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين .

( إلا ما ذكيتم ) قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وطاوس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات ; أي : من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع . فما أدرك منها بطرف بعض ، أو يضرب برجل ، أو يحرك ذنبا . وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل . وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أن الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة . وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات . وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : لا ما أدركتم ذكاته [ ص: 424 ] وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه . وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ; والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال . وقيل : هو استثناء منقطع ; والتقدير : لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه . وكأن هذا القائل رأى أن هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسبب وصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعا . والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب . وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أن ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتا ، إذا كان استثناء منقطعا فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وذهب الجمهور إلى جواز أكله . والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم . وهو ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) المعنى على التشبيه ; أي : ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه فكما أن ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ، ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته .

( وما ذبح على النصب ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها . قال ابن عباس : ويحلون عليها . قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : وما ذبح على النصب ، ونزل ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) انتهى . وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد . قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد . وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضا : نصب ، لأنه ينصب . انتهى . وقرأ الجمهور : النصب بضمتين . وقرأ طلحة بن مصرف بضم النون ، وإسكان الصاد . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور . وقرأ الحسن بفتح النون ، وإسكان الصاد .

( وأن تستقسموا بالأزلام ) هذا معطوف على ما قبله ; أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم وهو النصيب ، أو القسم ، وهو المصدر . قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم . انتهى . وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها . وروي عنه أيضا : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج . وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله :


لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى     ولا زاجرات الطير ما الله صانع



وروي هذا عن ابن جبير ، قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه ، في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي . وإن خرج الغفل أعاد الضرب . والثاني : سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر : تصح ، وفي آخر : لا ، فإذا أرادوا أمرا [ ص: 425 ] ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر : منكم ، وفي آخر : من غيركم ، وفي آخر : ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أم من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به . وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل . والثالث : قداح الميسر ; وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة .

( ذلكم فسق ) الظاهر أن الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبوصالح عن ابن عباس . وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا . ( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقا ؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال : ( لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم . فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر . انتهى . قال الزمخشري في اسم الإشارة ، رواه عن ابن عباس علي بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير . قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات . وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا ، أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح .

( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد . وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ، ورسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك . وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع . وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه . وقال الزجاح : لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت . انتهى . واتبع الزمخشري الزجاج فقال : ( اليوم ) لم يرد به يوما بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك . ونحوه الآن في قوله :


الآن لما ابيض مسربتي     وعضضت من نابى على جدم

انتهى .

والذين كفروا : مشركو العرب . قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم . وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار . ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة . ألا بطل السحر اليوم . وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن [ ص: 426 ] يغلبوه لأن الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله . انتهى . وقرأ أبو جعفر : ( ييس ) من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو .

فلا تخشوهم و اخشون قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم . وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم . وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم . والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى .

( اليوم أكملت لكم دينكم ) يحتمل ( اليوم ) المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس . قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إن حجوا وليس معهم مشرك . وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم . أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد . انتهى . وهذا القول الثاني هو قول ابن عباس والسدي قالا : كمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم . وقال قتادة وابن جبير : كماله أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك . وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض . وقيل : كماله الأمن من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدم . وقال القفال : الدين ما كان ناقصا البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالما في أول المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة . وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي ، صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وأتممت عليكم نعمتي أي : في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة والخلود . وحسن العبارة الزمخشري ، فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان . انتهى . فكلامه مجموع أقوال المتقدمين . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج . وقال السدي : هو الإظهار على العدو . وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام . وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام .

ورضيت لكم الإسلام دينا يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ) قاله الزمخشري . وقال ابن عطية الرضافي : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأن الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها . والإسلام هنا هو الدين في قوله : إن الدين عند الله الإسلام . انتهى ، وكلامه يدل على أن الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة . وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم دينا ، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حمل على ظاهره [ ص: 427 ] وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم . وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا كاملا إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء .

( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل . وتقدم تفسير مثل هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : " فمن اطر " بإدغام الضاد في الطاء . ومعنى متجانف : منحرف ومائل . وقرأ الجمهور : متجانف بالألف . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : ( متجنف ) دون ألف . قال ابن عطية : وهو أبلغ في المعنى من ( متجانف ) ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل . وكذلك تصاون الرجل وتصون وتغافل وتغفل . انتهى . والإثم هنا قيل : أن يأكل فوق الشبع . وقيل : العصيان بالسفر . وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجانفنا فيه لإثم ، ولا تعمدنا ونحن نعلمه . أي : ما ملنا فيه لحرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية