صفحة جزء
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) قال ابن عباس : قال بعض اليهود لبعض منهم ، ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم ، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 504 ] فنزلت . وقال مقاتل : قال جماعة من بني النضير له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، ونبايعك ؟ فنزلت . قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم ، وإنما نزلت في شيئين مختلفين : أحدهما : شأن الرجم ، والآخر التسوية . انتهى . وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله : ( أو أعرض عنهم ) وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في : وأن احكم ، أن يكون في موضع نصب عطفا على الكتاب ; أي : والحكم . وفي موضع جر عطفا على بالحق ، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخرا ، والتقدير : وحكمك بما أنزل ; أنزل الله أمرنا وقولنا . أو مقدما والتقدير : ومن الواجب حكمك بما أنزل الله . وقيل : أن تفسيرية ، وأبعد ذلك من أجل الواو ، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلا محذوفا فيه معنى القول ; أي : وأمرناك أن احكم ، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها ، وذلك لا يحفظ من كلام العرب . وقرئ بضم النون من : وأن احكم ، إتباعا لحركة الكاف ، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين . والضمير في بينهم عائد على اليهود . وقيل : على جميع المتحاكمين .

( ولا تتبع أهواءهم ) تقدم شرح هذه الجملة . ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) أي : يستزلوك . وحذره عن ذلك ، وإن كان مأيوسا من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم ، وقال : عن بعض ، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي ، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه . وموضع أن يفتنوك نصب على البدل ، ويكون مفعولا من أجله .

( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) أي : فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره ; ومعنى : أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، أن يعذبهم ببعض آثامهم . وأبهم بعضا هنا ويعني به ; والله أعلم ; التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد ، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي وفرط إسرافهم في ارتكابه ، ونظيره قول لبيد :


أو يرتبط بعض النفوس حمامها



أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة أو نفسا أي نفس ، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر ، رضي الله عنه ، أهل خيبر وفدك وغيرهم . قال ابن عطية : وخصص إصابتهم ببعض الذنوب ، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا ; وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم ، كشرب الخمر وزناهم ورشاهم ; ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كممالأتهم للكفار ، وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا ، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة . وقال ابن عطية أيضا : فإن تولوا ، قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره : لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك ، وإن تولوا فاعلم . ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله : لفاسقون . انتهى . ولا يحتاج إلى تقدير هذا .

( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) أي : متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله . وقال ابن عباس : المراد بالفسق هنا : الكفر . وقال مقاتل : المعاصي . وقال ابن زيد : الكذب ; وظاهر الناس العموم ، وإن كان السياق في اليهود ، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم . ويحتمل أن يكون الناس للعهد ، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية