صفحة جزء
( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) قال ابن عطية : قرأ ابن عامر ( الملو ) بالواو ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام انتهى . وليس مشهورا عن ابن عامر ، بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة . ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلو فيهما . ونراك : الأظهر أنها من رؤية القلب ، وقيل : من رؤية العين ومعنى ( في ضلال مبين ) ، أي : في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة . وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام ، وفي للوعاء فكأن الضلال جاء ظرفا له وهو فيه [ ص: 321 ] ولم يأت ضالا ولا ذا ضلال .

( قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه ، فلم يأت التركيب لست في ضلال مبين ، بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ، ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة ، وفي ندائه لهم ثانيا والإعراض عن جفائهم ما يدل على سعة صدره والتلطف بهم .

ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دل على أنه على الصراط المستقيم فصح أن يستدرك كما تقول ما زيد بضال ولكنه مهتد ، فلكن واقعة بين نقيضين ؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضلال والهدى ، ولا تجامع ضلالة الرسالة ، وفي قوله : ( من رب العالمين ) تنبيه على أنه ربهم ؛ لأنهم من جملة العالم ، أي : من ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و ( أبلغكم ) استئناف على سبيل البيان بكونه رسولا ، أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظا فيه بكونه خبرا لضمير متكلم كما تقول أنا رجل آمر معروف ، فتراعي لفظ أنا ، ويجوز يأمر بالمعروف فيراعي لفظ رجل ، والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب ، فيعود الضمير ضمير متكلم ، أو مخاطب . قال تعالى : ( بل أنتم قوم تفتنون ) بالتاء ولو قرئ بالياء لكان عربيا مراعاة للفظ ( قوم ) ؛ لأنه غائب ، وقرأ أبو عمرو ( أبلغكم ) هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف ، وباقي السبعة بالتشديد ، والهمزة والتضعيف للتعدية فيه ، وجمع ( رسالات ) باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة ، أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزجر والوعظ والتبشير والإنذار ، أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس ، وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة . وتقدم الكلام في " نصح " وتعديتها ، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنها وقعت للمنصوح له مقصودا به جانبه لا غير ، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله ، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة :


نصحت بني عوف فلم يتقبلوا

وفي قوله : ( ما لا تعلمون ) إبهام عليهم وهو عام ، ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قط بأمة عذبت فتضمن التهديد والوعيد ، فيحتمل أن يريد ما لا تعلمون من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلها معه ، أو يريد ما لا تعلمون مما أوحي إلي ، قال ابن عطية : ولا بد أن نوحا - عليه السلام - وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة ، فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف ، وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولا : [ ص: 322 ] ( أبلغكم رسالات ربي ) ، وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إن عليك إلا البلاغ ، ثم قال ( وأنصح لكم ) ، أي : أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ، ثم قال وأعلم من الله ما لا تعلمون من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم .

( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) يتضمن قولهم ( إنا لنراك في ضلال مبين ) استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم ، وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي : سبب استبعادهم إرسال نوح ، والهمزة للإنكار والتوبيخ ، أي : هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى التصرف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ، قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف ، كأنه قيل ، أوكذبتم وعجبتم أن جاءكم . انتهى . وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنحاة ؛ لأنهم يقولون : إن الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأن الأصل وأعجبتم لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت على حروف العطف ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام ، وقد تقدم الكلام معه في نظير هذه المسألة ، وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة ، والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان ، أقوال والأولى أن يكون قوله : ( على رجل ) فيه إضمار ، أي : على لسان رجل كما قال : ( ما وعدتنا على رسلك ) ، وقيل : على بمعنى مع ، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف ، بل قوله : ( على رجل ) هو على ظاهره ؛ لأن ( جاءكم ) بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوة نوح ، ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر و ( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرحمة ، وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف ، والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ، ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها ، فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة ؛ لأن المترتب على السبب سبب .

( فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ) . أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلا التكذيب له فيما جاء به عن الله ( والذين معه في الفلك ) هم من آمن به وصدقه وكانوا أربعين رجلا ، وقيل : ثمانين رجلا وأربعين امرأة . قاله الكلبي وإليهم تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ، وقيل : عشرة فيهم أولاده [ ص: 323 ] الثلاثة ، وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله : ( وأغرقنا الذين كذبوا ) إعلام بعلة الغرق وهو التكذيب و ( بآياتنا ) يقتضي أن نوحا كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق ( في الفلك ) بما يتعلق به الظرف الواقع صلة ، أي : والذين استقروا معه في الفلك ، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه ، أي : أنجيناهم في السفينة من الطوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في سببية ، أي : بالفلك كقوله دخلت النار في هرة ، أي : بسبب هرة و ( عمين ) من عمي القلب ، أي : غير مستبصرين ، ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ، ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضيق والثقل ، قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر . قال :


ما في غد عم ولكنني عن علم

وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية