صفحة جزء
فصل

وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع ، بدليل العلة وملزومها . ومنه [ ص: 189 ] قوله تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه ، على الإحياء الذي استبعدوه ، وذلك قياس إحياء على إحياء ، واعتبار الشيء فنظيره ، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته ، وإحياء الأرض دليل العلة ، ومنه قوله تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] .

فدل بالنظير على النظير ، وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج ، أي : يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ومنه قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان : الذكر والأنثى ، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء ، ونبه سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار ، وسوقها في مراتب الكمال ، من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها ، حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلقة وتقويم ، على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا . لا يأمره ، ولا ينهاه ، ولا يقيمه في عبوديته ، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا ، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم ، وينظر إلى وجهه ، ويسمع كلامه . . . إلى آخر كلام ابن القيم ، فإنه أطال في ذكر الأمثلة على النحو المذكور ، ولم نذكر جميع كلامه خوفا من الإطالة المملة ، وفيما ذكرنا من كلامه تنبيه على ما لم نذكره ، وقد تكلم على قياس الشبه ، فقال فيه :

وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين . فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل [ 12 \ 77 ] فلم يجمعوا بين الفرع والأصل بعلة ولا دليلها ، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف ، فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة ، وذلك قد سرق فكذلك هذا ، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي ، وهو قياس فاسد ، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان حقا ، ولا دليل على [ ص: 190 ] التساوي فيها ، فيكون الجمع لنوع شبه خال من العلة ودليلها .

ثم ذكر لقياس الشبه الفاسد أمثلة أخرى في الآيات الدالة على أن الكفار كذبوا الرسل بقياس الشبه حيث شبهوهم بالبشر ، وزعموا أن ذلك الشبه مانع من رسالتهم . كقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا [ 11 \ 27 ] وقوله تعالى عنهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ 23 \ 33 ] . إلى غير ذلك من الآيات . فالمشابهة بين الرسل وغيرهم في كون الجميع بشرا لا تقتضي المساواة بينهم في انتقاء الرسالة عنهم جميعا ، ولما قالوا للرسل : ما أنتم إلا بشر مثلنا [ 36 \ 15 ] أجابوهم بقولهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] وقياس الكفار الرسل على سائر البشر في عدم الرسالة قياس ظاهر البطلان ؛ لأن الواقع من التخصيص والتفضيل ، وجعل بعض البشر شريفا وبعضه دنيا ، وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا ، وبعضه ملكا وبعضه سوقا - يبطل هذا القياس . كما أشار إليه جواب الرسل المذكور آنفا ، يشير إليه قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 ] وهذه الأمثلة من قياس الشبه ليس فيها وصف مناسب بالذات ولا بالتبع . فلذلك كانت باطلة .

ثم ذكر ابن القيم أن جميع الأمثال في القرآن كلها قياسات شبه صحيحة ؛ لأن حقيقة المثل تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر . ثم سرد الأمثال القرآنية ذلك فيها واحدا واحدا ، وأطال الكلام في ذلك فأجاد وأفاد .

وقال في آخر كلامه : قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل ، والقياس ، والجمع ، والفرق ، واعتبار العلل ، والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا . قالوا : وقد ضرب الله سبحانه الأمثال ، وصرفها قدرا وشرعا ، ويقظة ومناما ، ودل عباده على الاعتبار بذلك ، وعبورهم من الشيء إلى نظيره ، واستدلالهم بالنظير على النظير . بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ، ونوع من أنواع الوحي ، فإنها مبنية على القياس ، والتمثيل ، واعتبار المعقول بالمحسوس .

ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو [ ص: 191 ] قصر ، أو نظافة أو دنس فهو في الدين . كما أول النبي - صلى الله عليه وسلم - القميص بالدين والعلم ، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس .

ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة ؛ لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة ، وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن . فهو مفطور على إيثاره على ما سواه ، وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس .

ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض ، كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها ، وحاجة الأرض وأهلها إليها ؛ ولهذا لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه .

ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل ؛ لأن العامل زارع للخير والشر ، ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره ، فالدنيا مزرعة ، والأعمال البذر ، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده .

ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين ، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ، ولا ظل ، ولا ثمر ، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك ؛ ولهذا شبه تعالى المنافقين بالخشب المسندة ؛ لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير ، وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض ، فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها . . . إلى آخر كلامه . وقد ذكر أشياء كثيرة من عبارة الرؤيا فأجاد وأفاد ، وكلها راجعة إلى اعتبار النظير بنظيره ، وذلك كله يدل دلالة واضحة على أن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل .

ثم قال ابن القيم : فهذا شرع الله وقدره ووحيه ، وثوابه وعقابه ، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير ، واعتبار المثل بالمثل ؛ ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية ، والشرعية ، والجزائية ؛ ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف آثارها عنها ، كقوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله [ 59 \ 4 ] ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم [ 40 \ 12 ] ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما [ ص: 192 ] كنتم تمرحون [ 40 ] ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 28 ] ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر [ 47 \ 26 ] وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم [ 41 ] .

وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة ، وباللام تارة ، وبـ " أن " تارة ، وبمجموعهما تارة ، وبـ " كي " تارة ، و " من أجل " تارة ، وترتيب الجزاء على الشرط تارة ، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة ، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة ، وبـ " لما " تارة ، وبـ " أن " المشددة تارة ، وبـ " لعل " تارة ، وبالمفعول له تارة . فالأول كما تقدم ، واللام كقوله : ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض [ 5 \ 97 ] و " أن " كقوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا [ 6 \ 156 ] ثم قيل : التقدير لئلا تقولوا ، وقيل : كراهة أن تقولوا . و " أن واللام " كقوله : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وغالب ما يكون هذا النوع في النفي ، فتأمله .

و " كي " كقوله : كي لا يكون دولة [ 59 \ 7 ] والشرط والجزاء كقوله : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا [ 3 \ 120 ] والفاء كقوله : فكذبوه فأهلكناهم [ 26 \ 139 ] فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [ 69 \ 10 ] فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 16 ] وترتيب الحكم على الوصف كقوله : يهدي به الله من اتبع رضوانه [ 5 \ 15 ] وقوله : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ 58 \ 11 ] وقوله : إنا لا نضيع أجر المصلحين [ 7 \ 170 ] ولا نضيع أجر المحسنين [ 12 \ 56 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [ 12 \ 52 ] ولما كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 ] فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] وإن المشددة كقوله : إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 77 ] إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ 21 ] ولعل كقوله : لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] لعلكم تعقلون [ 2 ] لعلكم تذكرون [ 24 ] والمفعول له كقوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [ 92 \ 19 - 21 ] أي : لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس ، وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى . و " من أجل " كقوله : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل [ 5 ] .

[ ص: 193 ] وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الأحكام ، والأوصاف المؤثرة فيها ؛ ليدل على ارتباطها بها ، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها ، كقوله في نبيذ التمر : " تمرة طيبة ، وماء طهور " ، وقوله : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وقوله : " إنما نهيتكم من أجل الدافة " ، وقوله في الهرة : " ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب ، وقوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " ، وقوله : " إنكم إذا فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم " ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها . وقوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] وقوله في الخمر والميسر : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر - : " أينقص الرطب إذا جف " ؟ قالوا نعم . فنهى عنه . وقوله : " لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ فإن ذلك يحزنه " . وقوله : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء " وقوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " وقال - وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء " هل هو إلا بضعة منك " ، وقوله في ابنة حمزة : " إنها لا تحل لي ؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة " ، وقوله في الصدقة : " إنها لا تحل لآل محمد ؛ إنما هي أوساخ الناس " . وقد قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحكام لأمته بذكر نظائرها وأسبابها ، وضرب لها الأمثال . . . إلى آخر كلامه .

وقد ذكر فيه أقيسة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - منها قياس القبلة على المضمضة في حديث عمر المتقدم ، وقياس دين الله على دين الآدمي في وجوب القضاء . وقد قدمناه مستوفى كما قبله في سورة " بني إسرائيل " .

ومنها قياس العكس في حديث : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم وضعها في حرام ، أيكون عليه وزر " وقد قدمناه مستوفى في سورة " التوبة " .

ومنها قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وقد قدمنا ذلك مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

ومنها حديث المستحاضة الذي قاس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - دم العرق الذي هو دم الاستحاضة على غيره من دماء العروق التي لا تكون حيضا . وكل ذلك يدل على أن إلحاق [ ص: 194 ] النظير بالنظير من الشرع ، لا مخالف له كما يزعمه الظاهرية ومن تبعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية