صفحة جزء
قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : ولم يقتروا بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء ، مضارع أقتر الرباعي ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وكسر المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كضرب ، وقرأه عاصم وحمزة ، والكسائي ، ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وضم المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كنصر ، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر ، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد ، وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم ، والإسراف في قوله تعالى : لم يسرفوا ، مجاوزة الحد في النفقة .

واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة ، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم ، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق ، ولا يقترون ، أي : لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم .

وقال بعض أهل العلم : الإسراف في الآية : الإنفاق في الحرام والباطل ، والإقتار منع الحق الواجب ، وهذا المعنى وإن كان حقا فالأظهر في الآية هو القول الأول .

قال ابن كثير - رحمه الله - : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، أي : ليسوا مبذرين في إنفاقهم ، فيصرفوا فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم ، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، انتهى محل الغرض منه .

وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما ، أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر قواما أي : عدلا وسطا سالما من عيب الإسراف والقتر .

وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي ، قال : قواما خبر [ ص: 76 ] كان ، واسمها مقدر فيها ، أي : كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما ، ثم قال : قاله الفراء ، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي ; كقول من قال : إن لفظة بين هي اسم كان ، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني ، وقول من قال : إن بين هي خبر كان ، و قواما حال مؤكدة له ، ومن قال : إنهما خبران ، كل ذلك ليس بوجيه عندي ، والأظهر الأول . والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم ، وإنفاقهم المال في أوجه الخير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; فمن ذلك أن الله أوصى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية [ 17 \ 29 ] فقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، أي : ممسكة عن الإنفاق إمساكا كليا ، يؤدي معنى قوله هنا : ولم يقتروا . وقوله : ولا تبسطها كل البسط ، يؤدي معنى قوله هنا : لم يسرفوا ، وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 219 ] على أصح التفسيرين .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية