صفحة جزء
قوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق .

أشار - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات هذا القرآن العظيم ، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .

[ ص: 186 ] وما ذكره - جل وعلا - في آية " الجاثية " هذه - ذكره في آيات أخر بلفظه ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 251 - 252 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين [ 3 \ 107 - 108 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : تلك - بمعنى هذه .

ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب ، كقوله : ذلك الكتاب [ 2 \ 2 ] بمعنى : هذا الكتاب . كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي :

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا     أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا أنني أنا ذلكا



يعني أنا هذا .

وقد أوضحنا هذا المبحث ، وذكرنا أوجهه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) - في أول سورة " البقرة " ، وقوله - تعالى - : نتلوها أي نقرؤها عليك .

وأسند - جل وعلا - تلاوتها إلى نفسه ; لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك ، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه - جل وعلا - .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] .

فقوله : فإذا قرأناه ، أي قرأه عليك الملك المرسل به من قبلنا مبلغا عنا ، وسمعته منه ، فاتبع قرآنه ، أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه .

وقد أشار - تعالى - إلى ذلك في قوله : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] .

وسماعه - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له - هو معنى تنزيله إياه [ ص: 187 ] على قلبه في قوله - تعالى - : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ 2 \ 97 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] يعني آياته الشرعية الدينية .

واعلم أن لفظ الآية يطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضا .

أما إطلاقاه في اللغة العربية :

فالأول منهما - وهو المشهور في كلام العرب - فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :

توهمت آيات لها فعرفتها     لستة أعوام وذا العام سابع



ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده :


رماد ككحل العين لأيا أبينه     ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع



وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم .

ومنه قول برج بن مسهر :

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا     بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا



وقوله : بآياتنا ، يعني بجماعتنا .

وأما إطلاقاه في القرآن العظيم : فالأول منهما : إطلاق الآية على الشرعية الدينية ، كآيات هذا القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الآية .

وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية ، كقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] .

أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة ; لأن الآيات الكونية علامات قاطعة ، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده .

[ ص: 188 ] وأما الآية الشرعية الدينية ، فقال بعض العلماء : إنها أيضا من الآية التي هي العلامة ; لأن آيات هذا القرآن العظيم - علامات على صدق من جاء بها ، لما تضمنته من برهان الإعجاز ، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها .

وقال بعض العلماء : إنها من الآية بمعنى الجماعة ، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه .

واختار غير واحد أن أصل الآية أيية - بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها - فاجتمع في الياءين موجبا إعلال ; لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

من واو وياء بتحريك أصل     ألفا أبدل بعد فتح متصل
إن حرك التالي . . .      . . . . . . . . إلخ

.

والمعروف في علم التصريف أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما ، وإعلال الثاني بإبداله ألفا ، كالهوى والنوى والطوى والشوى ، وربما صحح الثاني وأعل الأول ، كغاية وراية ، وآية - على الأصح من أقوال عديدة - ومعلوم أن إعلالهما لا يصح ، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله :

وإن لحرفين ذا الإعلال استحق     صحح أول وعكس قد يحق



التالي السابق


الخدمات العلمية