قوله تعالى : 
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية   . 
قرئت البرية بالهمزة وبالياء ، فقرأ بالهمز : 
نافع  وابن ذكوان  والباقون بالياء ، فاختلف في أخذها . 
قال 
القرطبي    : قال 
الفراء    : إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء : أي التراب . فأصله غير مهموز بقوله منه : براه الله يبروه بروا ، أي : خلقه ، وقيل : البرية من بريت القلم أي قدرته . 
وقد تضمنت هذه الآية مسألتين : الأولى منهما : أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها ، ومبحث 
خلود الكفار في النار ، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا . 
والمسألة الثانية أنهم شر البرية ، والبرية أصلها البريئة ، قلبت الهمزة ياء تسهيلا ، وأدغمت الياء في الباء ، والبريئة الخليقة ، والله تعالى بارئ النسم ، هو الخالق البارئ المصور سبحانه . 
ومن البرية الدواب والطيور ، وهنا النص على عمومه ، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب . 
وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى : 
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون   [ 8 \ 22 ] ، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله : 
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم   [ 47 \ 23 ] ، وقال عنهم : 
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين   [ 43 \ 40 ] ، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين . 
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين ; لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله ، كما جاء في هدهد 
سليمان  ، أنكر على 
بلقيس  وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله . 
ونص 
مالك  في الموطأ في فضل يوم الجمعة : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009854أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من   [ ص: 50 ] فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة   " ، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء ، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء ، فيقول لها : كوني ترابا ، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له ، كما قال : 
يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا   [ 78 \ 40 ] . 
وذلك والله تعالى أعلم : أن 
الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه ، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها ، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها ، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب . بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار ، فكان شر البرية . 
قوله تعالى : 
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية   . 
الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك ، ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل . 
أما من حيث الجنس فلا إشكال ; لأن الإنسان أفضل الأجناس 
ولقد كرمنا بني آدم   [ 17 \ 70 ] . 
وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن 
صالح المؤمنين أفضل من الملائكة   . 
ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ، ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف . 
وللقرطبي  مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب ، فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل . 
وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله : 
قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم   [ 2 \ 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب 
أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين : فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة .  
[ ص: 51 ] وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . 
وقوله : 
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون   [ 66 \ 6 ] . وقوله : 
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك   [ 6 \ 50 ] . 
وبما في 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  يقول الله : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009855من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه   " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض . 
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : 
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية   [ 98 \ 7 ] ، بالهمز من برأ الله الخلق ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009856إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم   " أخرجه 
أبو داود    . 
وبأن الله يباهي بأهل 
عرفات  الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم . 
وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ; لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة . 
وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا 
للقدرية  والقاضي أبي بكر  ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا 
والشيعة    : إن الأنبياء أفضل ; لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره . 
ثم رد هذا الاستدلال . 
وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم : 
عباد مكرمون   [ 21 \ 26 ] ، والبشر فيهم النص 
ولقد كرمنا بني آدم   [ 17 \ 70 ] ، والفرق بينهما كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة . 
ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث . 
وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم   
[ ص: 52 ] وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن 
التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني . 
وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، ثم هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد . 
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حق من يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009857بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون   " . 
وحديث : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009858سبق درهم مائة ألف درهم   " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ; لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير . 
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة ; فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم .