صفحة جزء
سورة البلد

قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد .

هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة ، مع أنه تعالى أقسم به في قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .

الأول : وعليه الجمهور ، أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] ، يعني أن تتبعني ، وقوله : ما منعك ألا تسجد [ 7 \ 12 ] ، أي أن تسجد على أحد القولين .

ويدل له قوله في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] ، أي ليعلم أهل الكتاب ، وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ ص: 444 ] [ 21 ] ، أي والسيئة وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين .

وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا [ 6 \ 151 ] ، على أحد الأقوال الماضية .

وكقول أبي النجم :


فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا

يعني أن تسخر ، وكقول الشاعر :


وتلحينني في اللهو أن لا أحبه     وللهو داع دائب غير غافل

يعني أن أحبه و : لا ، زائدة .

وقول الآخر :


أبى جوده لا البخل واستعجلت به     نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

يعني أبى جوده البخل ، و " لا " ، زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية " البخل " بالجر لأن : لا ، عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر .

وقول امرئ القيس :


فلا وأبيك ابنة العامري     لا يدعي القوم أنى أفر

يعني وأبيك .

وأنشد الفراء لزيادة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر :


ما كان يرضى رسول الله دينهم     والأطيبان أبو بكر ولا عمر

يعني وعمر ، و : لا ، صلة .

وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :

[ ص: 445 ]

في بئر لا حور سرى وما شعر     بإفكه حتى رأى الصبح جشر

فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة ، و " لا " صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره .

وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :


أفعنك لا برق كأن وميضه     غاب تسنمه ضرام مثقب

ويروى أفمنك ، وتشيمه بدل أفعنك ، وتسنمه .

يعني أعنك برق و " لا " ، صلة .

ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :


تذكرت ليلى فاعترتني صبابة     وكاد صميم القلب لا يقطع

يعني كاد يتقطع .

وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :


أعائش ما لقومك لا أراهم     يضيعون الهجان مع المضيع

فغلط منه لأن : لا ، في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم ، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي .

وما ذكره الفراء من أن لفظة : لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبني لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها ، كهذه الآية على القول بأن " لا " فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي .

وما ذكره الزمخشري من زيادة " لا " في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه .

الوجه الثاني : أن " لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : " أقسم " إثبات مستأنف ، وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة " القيامة " : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ 75 ] ، لأن قوله تعالى : [ ص: 446 ] ولا أقسم بالنفس اللوامة يدلا على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله : " أقسم " ، والله تعالى أعلم .

الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية ، والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو نفسه عظيم أقسم به أولا .

وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من بعد .

الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها ، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو .

فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :


وتضحك مني شيخة عبشمية     كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا

فالأصل كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .

وقول الراجز :


إذا العجوز غضبت فطلق     ولا ترضاها ولا تملقي

فالأصل ترضها ، لأن الفعل مجزوم بلا الناهية .

وقول عنترة في معلقته :


ينباع من ذفرى غضوب جسرة     زيافة مثل الفنـيق المكدم

فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته ، فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح .

وقول الراجز :


قلت وقد خرت على الكلكال     يا ناقتي ما جلت من مجالي

فقوله : " الكلكال " ، يعني الكلكل ، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة [ ص: 447 ] الشعر ، لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ولأنه مسموع في النثر كقولهم : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون : كلكلا وخاتما ودانقا .

ومثله في إشباع الضمة بالواو ، وقولهم : برقوع ومعلوق ، يعنون : برقعا ومعلقا .

ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير :


ألم يأتيك والأنباء تنمي     بما لاقت لبون بني زياد

فالأصل يأتك لمكان الجازم ، وأنشد له الفراء :


لا عهد لي بنيضال     أصبحت كالشن البال

ومنه قول امرئ القيس :


كأني بفتخاء الجناحين لقوة     على عجل مني أطأطئ شيمالي

ويروى : " صيود من العقبان طأطأن شيمالي " .

ويروى " دفوف من العقبان " . إلخ .

ويروى " شملال " بدل شيمال " ، وعليه فلا شاهد في البيت ، إلا أن رواية الياء مشهورة . ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر :


هجوت زبان ثم جئت معتذرا     من هجو زبان لم تهج ولم تدع

وقول الآخر :


الله أعلم أنا في تلفتنا     يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري     من حيثما سلكوا أدنو فأنظور

يعني فأنظر ، وقول الراجز :


لو أن عمرا هم أن يرقودا     فانهض فشد المئزر المعقودا

يعني " يرقد " ، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 448 ] قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة .

يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء ، فهو أشد فقرا من مطلق الفقير ، كما ذهب إليهمالك وكثير من العلماء .

وقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون الآية [ 18 \ 79 ] ، يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار .

والجواب عن هذا محتاج إليه عن كلا القولين .

أما على قول من قال إن المسكين من عنده ما لا يكفيه كالشافعي ، فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول : المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه ، فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده ، فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين .

وعليه ، فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه : ذا متربة ، فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه ، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد .

وأما على قول من قال : بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير ، وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة : منها أن المراد بقوله : " مساكين " ؛ أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، ويزعمون أنهم عشرة ، خمسة منهم زمنى .

ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم ، بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص .

ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم .

والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها ، فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها ، وما احتج به بعضهم - من قراءة علي رضي الله عنه " لمساكين " ، بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابة المسوك التي هي الجلود ، فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها . والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك لتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية " الكهف " ، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية " البلد " ، [ ص: 449 ] كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما ، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما .

والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .

والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال ، كقول مالك ، ومن شواهده قول راعي نمير :


أما الفقير الذي كانت حلوبته     وفق العيال فلم يترك له سبد

فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله .

التالي السابق


الخدمات العلمية