1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين
صفحة جزء
( مقدمة في أصل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ومسألة كفر أبيه ) .

( إبراهيم ) هو الاسم العلم لخليل الرحمن ، أبي الأنبياء الأكبر من نوح ، عليهم الصلاة والسلام ، ويؤخذ من سفر التكوين - وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق - أنه العاشر من أولاد سام بن نوح ، وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي بلدة من بلاد الكلدان . و " أور " بضم الهمزة وسكون الواو ، ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا . قيل : هي البلدة المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين ، وقيل : غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق - بين النهرين - وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة ( أور ) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه ، وأشهرها ( أورشليم ) لمدينة القدس ، قالوا : إن معناها ملك السلام ، أو إرث السلام ، ف " شليم " بالعبرية هي السلام بالعربية . وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها ( كوثى ) من سواد الكوفة . وكان اسم إبراهيم ( أبرام ) بفتح الهمزة ، وقالوا : إن معناه ( أبو العلاء ) فهو مركب من كلمة " أب " العربية السامية مضافة إلى ما بعدها . وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه ، وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا أبديا ، وسماه لذريته ( إبراهيم ) بدل ( أبرام ) وقالوا : إن معنى إبراهيم ( أبو الجمهور ) العظيم أي أبو الأمة . وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام ، ولا ينافي ذلك كسر همزته ، فقد علم أن أصلها الفتح ، وأن " إب " المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام . فالجزء الأول منه عربي ، والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها ، حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية . وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم [ ص: 446 ] وابراهام وابراهوم وابراهيم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف . وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل ، وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم ، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه هاء كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج ، وتركيبه مزجي . وفي " القاموس المحيط " كغيره " أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم " قال شارحه عند الأول : قال شيخنا : وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير ، وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصريف بالكلية .

وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر ، وغلبت لغتهم فيهما ، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - عربي ، وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام ، ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي ، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم ، وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء . ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية - عليهم السلام - في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك ، وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك ، وأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان يزورهما ، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم ، ونشرا دين الإسلام في البلاد العربية ، فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر ، ولغة حمورابي وقومه ، ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالبة في ذينك القطرين ، وأنها على ما كان فيها من الدخيل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية ، ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم . وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده ، وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه ، ثم زاره مرة أخرى فلم يجده ، وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته . وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم ، فهي أم اللغة المضرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية ، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج ، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها .

وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات ( آزر ) وفي سفر التكوين أن اسمه ( تارح ) بفتح وحاء مهملة ، وقالوا : إن معناه ( متكاسل ) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين اللغويين منا يقولون : إن اسمه " تارخ " بالخاء المعجمة أو المهملة ، وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه ، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح . ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا منقولا عن العرب الأولين ، وإنما هو منقول [ ص: 447 ] فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب ، كوهب بن منبه ، وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات ، فتلقوها بالقبول على علاتها . وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم . ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ، ولكنه اسم صنم . وعن السدي اسم أبيه تارح ، واسم الصنم آزر . وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : آزر الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه يازر ، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر ، وإنما اسمه تارح . رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وعن ابن جريج أن اسمه تيرح . وجزم الضحاك بأن اسمه آزر ، واعتمده ابن جرير ، وروي عن الحسن أيضا . وقال البخاري في " التاريخ الكبير " : إبراهيم بن آزر ، وهو في التوراة تارح ، والله سماه آزر ، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك . اهـ . فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله - أي في كتابه - فإن أمكن الجمع بين القولين فبها وإلا رددنا قول المؤرخين ، وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن ، بل القرآن هو المهيمن على ما قبله ، نصدق ما صدقه ، ونكذب ما كذبه ، ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه صحيح . وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين أن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا ، وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها ، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد ، ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية ، ويليه في الضعف قول بعضهم : إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر ، فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه . وأقواه أن له اسمين ؛ أحدهما علم والآخر لقب : والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب ؛ لأن معناه المتكاسل ، وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده ، وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به ، إلا أن يصح ما زعمه من عكس ، فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج - ولعله تحريف عما قبله - وقيل : إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية .

بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) للألوسي ، والتفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) للرازي ، فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي :

قال الألوسي : وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين ، فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية ، وقيل : الأولى أن يقال : إنه غلب عليه فألحق بالعلم . وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة ، أو الوزر بمعنى الإثم ، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل ؛ لأنه على وزن أفعل .

[ ص: 448 ] وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح ، ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن ، وقال في هذا النسب خطأ وليس بصواب . ثم ذكر أن للعلماء هاهنا مقامين ؛ أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح ، قال : لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا ، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين ، مثل قول وهب وكعب وأمثالهما ، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن . انتهى . وقد بينا لك مأخذه ، وأنه لا إجماع في المسألة . ثم ذكر المقام الثاني ، وهو تسليم قولهم ، والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعيفه .

ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - - بل عمه بالجزم ; لأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا ، وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء ، ولا يجوز ذلك من الأنبياء . وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة ، وأطال في بيانه ، واختص في بيان ( زعم أصحابه - أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة - أن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة . وقال الألوسي : والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم - عليه السلام - وادعوا أنه ليس في آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - كافر أصلا ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " والمشركون نجس ، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه ، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل ، واستدلوا له بما استدلوا . والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع . وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم - عليه السلام - وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) ( 2 : 133 ) وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا . وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال : الخال والد والعم والد ، وتلا هذه الآية .

ثم ذكر السيد الألوسي آثارا استدلوا بها على ما ذكر ، أخذها فيما يظهر من بعض رسائل السيوطي التي ألفها في نجاة الأبوين الشريفين ، وجمع فيها الذرة وأذن الجرة - كما يقال - ورجح الآثار الواهية والمنكرة على الأحاديث الصحيحة المؤيدة بالآيات الصريحة ، وهي التي أشار إليها الألوسي بقوله : وألفوا في هذا المطلب الرسائل . . إلخ ، واعتمد عليها فيما ادعى أنه هو الذي عول عليه أهل السنة ، ومن الغريب وقوع هذه الهفوة من مثل هذا النقاد ، وإنما أوقعه فيها هوى صادفته في الفؤاد ، وهو الميل إلى ما يدل على نجاة جميع أولئك الآباء والأجداد الذين أنجبوا أفضل الأبناء والأحفاد ، محمدا وإبراهيم الخليلين عليهما وعلى آلهما [ ص: 449 ] أفضل الصلاة والسلام ، فإن من حبهما - وهو من آيات الإيمان بهما - أن يحب المؤمن نجاة أصولهما ، ولكن إذا ثبت أن بعضهم أصر على الكفر ، وقضت حكمة الله أن يبينه لنا في محكم الذكر ، وأن يطلع رسوله على عاقبته في النار ، فيخبر أمته به لكمال التوحيد والاعتبار ، أفيكون مقتضى حب الله ورسوله هو الإيمان بذلك وبيانه كما بيناه ؟ أم يكون حبهما تحريفه وتأويله مبالغة في تعظيم نسب الرسل ، واستعظاما لهلاك أقرب الناس منهم نسبا مع كرامتهم عند الله ، وتأثرا بأقوال أهل الملل الذين جعلوا نجاة الخلق وسعادتهم في الآخرة بجاه أنبيائهم وتأثيرهم الشخصي عند الله لا باتباعهم والاهتداء بما جاءوا به من أصول الإيمان وفضائل الأعمال ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) ( 3 : 53 ) .

نعم ، إن مما يصدع الفؤاد ، ويكاد يفتت أصلب الجماد ، أن يرى المؤمن والد خليل الرحمن قد أثبت عليه في كتاب الله تعالى عبادة الأوثان ، وأطلع الله تعالى رسوله على أن مآله أن يمسخ حيوانا منتنا ويلقى في سعير النيران ، كما روى البخاري في " كتاب أحاديث الأنبياء " و " كتاب التفسير " من صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك " لا تعصني " فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يارب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى " إني حرمت الجنة على الكافرين " ثم يقال : يا إبراهيم انظر ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " قال الحافظ بن حجر في شرحه . وفي رواية إبراهيم بن طهمان : فيؤخذ منه ، فيقول : يا إبراهيم ، أين أبوك ؟ قال : أنت أخذته مني ، قال : انظر أسفل ، فينظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه . وفي رواية أيوب : فيمسخ الله أباه ضبعا فيأخذ بأنفه ( أي يأخذ إبراهيم أنفه بأصابعه كراهة لرائحة نتنه ، فيقول : يا عبدي ، أبوك هو ؟ فيقول : لا وعزتك . وفي حديث سعيد : فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان . زاد ابن المنذر من هذا الوجه : فإذا رآه كذا تبرأ منه وقال : لست أبي . والذيخ - بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة - ذكر الضباع ، ولا يقال : ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر . والضبعان لغة في الضبع . اهـ .

أقول : الضبعان - بالكسر - ذكر الضباع ، وهو مفرد ، والضبع - بضم الباء وسكونها - هي الأنثى فلا يقال : ضبعة ، وقال ابن الأنباري : يطلق على الذكر والأنثى . وهو وحش خبيث الرائحة ، فناسب ذلك خبث الشرك .

وقال الحافظ : قيل : الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه ، ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون غضاضة على إبراهيم . وقيل : الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق [ ص: 450 ] الحيوان ، وآزر كان من أحمق البشر ؛ لأنه بعد أن ظهر له من ولده ما ظهر من الآيات البينات أصر على الكفر حتى مات . . إلخ .

ثم ذكر الحافظ أن الإسماعيلي استشكل متن هذا الحديث من أصله ، وطعن في صحته من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك ؟ قال الحافظ : وقال غيره : هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) ( 9 : 114 ) وأجاب عن الثاني بأن أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه ، فقيل : كان ذلك في الحياة الدنيا لما مات آزر مشركا . وذكر أن الطبري رواه عن ابن عباس من طرق قال في بعضها : استغفر له ما كان حيا ، فلما مات أمسك . وقيل : إنما تبرأ منه يوم القيامة لما يئس حين مسخ على ما صرح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها . وهذا الذي أخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، سمعت سعيد بن جبير يقول : إن إبراهيم يقول يوم القيامة : رب والدي ، رب والدي ، فإذا كان الثالثة أخذ بيده ، فيلتفت إليه وهو ضبعان ، فيتبرأ منه . . . ( ثم قال الحافظ ) : ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا ، فترك الاستغفار له ، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة ، فسأل فيه ، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ ، فتبرأ منه تبرءا أبديا . وقيل : إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك ، ويكون تبرؤه منه بعد الحال التي وقعت منه في الحديث . انتهى . وفيه التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي ، وهو كثير في أخبار القيامة .

ثم نقل الحافظ عن الكرماني إيرادا بمعنى إشكال الإسماعيلي موضحا . والجواب عنه من وجهين : أحدهما أنه إذا مسخ وألقي في النار لم تبق الصورة التي هي سبب الخزي ، فهو عمل بالوعد والوعيد معا ، وثانيهما أن الوعد كان مشروطا بالإيمان ، وإنما استغفر له وفاء بما وعده ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه .

وأقول : إن ما في الحديث من أن الله تعالى وعد إبراهيم - صلى الله عليه وآله وسلم - بألا يخزيه يوم القيامة يشير إلى دعائه الذي حكاه الله تعالى عنه في سورة الشعراء ، ومنه ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مالا ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ( 26 : 86 - 89 ) وأما وعد الله تعالى إياه بذلك فلا نعرفه إلا من الحديث ، فهو يدل على أن الله تعالى أوحى إليه بأنه استجاب له هذا الدعاء بشرطه المعلوم من الدين بالضرورة ، وهو أن الله تعالى لا يغفر لمن يشرك به . وتأمل قوله تعالى في خاتمة الدعاء : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) فهو من دقائق الرقائق .

وأما استدلال الألوسي تبعا لغيره بحديث " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام [ ص: 451 ] الطاهرات " على إيمان آباء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من عبد الله ( أولهم ) إلى آدم - عليه السلام - فهو معارضة لظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة بحديث واه رواه أبو نعيم في الدلائل من حديث ابن عباس بلفظ " لم يلتق أبوي في سفاح ، لم يزل الله عز وجل ينقلني من أصلاب طيبة ، إلى أرحام طاهرة ، صافيا مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما " هكذا في نسخة الدلائل التي بأيدينا . وذكره السيوطي عنه بلفظ " من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة " بالتعريف ، ولا نعرفه باللفظ الذي ذكره الألوسي عن أحد من المحدثين ، وإنما يذكره بهذا اللفظ من لا يتحرون نقل الأحاديث بضبط مخرجيها ، بل يتساهلون بنقلها حيث وجدوها ككثير من المفسرين والمتكلمين . وقد سبق الفخر الرازي الألوسي إلى ذكره بهذا اللفظ من غير عزو ولا ذكر لاسم الصحابي الذي رفعه كعادته . واللفظ المروي لا معنى له إلا كون آبائه - صلى الله عليه وسلم - ولدوا من نكاح لا من سفاح ، وهو معنى صحيح وردت فيه أحاديث أخرى ، ولو فرضنا أنه روي باللفظ الذي ذكراه لاحتمل هذا المعنى أيضا ، وكان حمله عليه جمعا بينه وبين القرآن ، والأحاديث الصحيحة أولى من جعله أصلا وإرجاعها إليه بالتأويل والتكلف . والذي خرجه إنما جعله في دلائل طهارة نسبه لا إيمان أصوله .

ومما ذكر السيوطي من الدلائل في معنى هذه المسألة قوله تعالى : ( وتقلبك في الساجدين ) ( 26 : 219 ) لقول بعضهم : إن معناه في أصلاب الطاهرين أي المؤمنين ، وروى أبو نعيم أنهم الأنبياء ، ويبطل ذلك ما ذكرنا من المعارضة ، وقوله تعالى قبل الآية : ( الذي يراك حين تقوم ) ( 26 : 218 ) أي : ويرى تقلبك في الساجدين ، فهو لا يحتمل الماضي ، وإنما معناه كما قال ابن عباس وغيره : الذي يراك حين تقوم في الصلاة ، ويرى تقلبك في المصلين أي معهم وبينهم . وما روي عنه من أن المعنى تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا - لا يصح سندا ولا متنا ولا لغة . وتفصيل ذلك سيأتي في محله .

وأما الأحاديث الصحيحة المعارضة لحديث أبي نعيم التي أشرنا إليها في سياق الكلام غير حديث البخاري في مسخ آزر فأهمها ما ورد في أبوي الرسول الطاهرين - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن رجلا قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : " في النار " قال : فلما قفا الرجل دعاه فقال : " إن أبي وأباك في النار " قال النووي في شرحه : فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ، ولا تنفعه قرابة المقربين ، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار ، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة ، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن أبي وأباك في النار " هو من حسن العشرة [ ص: 452 ] للتسلية بالاشتراك في المصيبة . ومعنى " قفا " ولى قفاه منصرفا . انتهى . وورد حديث مثله في أمه - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الإمام أحمد .

وروى مسلم أيضا من طريق مروان بن معاوية ، عن زيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي " ورواه من طريق محمد بن عبيد بلفظ : " زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : استأذنت ربي في أن أستغفر لها ، فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور ، فإنها تذكركم الموت " وذكر النووي أن هذه الرواية وجدت في نسخ المغاربة دون المشارقة ، ولكنها توجد في كثير من الأصول في آخر كتاب الجنائز ويضبب عليها ، وربما كتبت في الحاشية . وذكر أن الحديث رواه من هذه الطريق أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، ورجاله عندهم كلهم ثقات ، قال : فهو حديث صحيح بلا شك .

وقال النووي في شرح الحديث : فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة ؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى ، وقد قال تعالى : ( وصاحبهما في الدنيا معروفا ) ( 31 : 15 ) وفيه النهي عن الاستغفار للكفار . قال القاضي عياض رحمه الله : سبب زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها أنه قصد الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث : " فزوروا القبور ؛ فإنها تذكركم الموت " انتهى . فهذا كلام أهل السنة .

وقد ورد في التفسير المأثور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من عدة طرق ، أن قوله تعالى في سورة التوبة : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) ( 9 : 113 ، 114 ) نزلت في هذه الواقعة . ولكن روى الشيخان وغيرهما أنها نزلت لما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي طالب عند موته أن يقول : لا إله إلا الله ليحاج له بها أو يجادل عنه أو يشفع له بها ، وكان عنده أبو جهل ، فجعل يقول له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال آخر ما كلمهم إنه على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقولها ، فحينئذ قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) ( 9 : 113 ) إلخ . وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) ( 28 : 56 ) قيل في تفسير " من أحببت " من أحببت هدايته . وقيل : من أحببته بقرابة ونحوها .

[ ص: 453 ] قال الحافظ عند شرح هذا الحديث من كتاب التفسير في البخاري حين ذكره في تفسير سورة القصص : وفيه إشكال ؛ لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى قبر أمه لما اعتمر . فاستأذن ربه أن يستغفر لها ، فنزلت هذه الآية ، والأصل عدم تكرر النزول ، ثم ذكر الروايات في ذلك عن الحاكم ، وابن أبي حاتم ، والطبري ، والطبراني ، ثم قال : ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم ، ويكون لنزولها سببان : متقدم وهو أمر أبي طالب ، ومتأخر وهو أمر آمنة . ويؤيد تأخير النزول ما سيأتي في تفسير براءة ( 9 : 80 ) من استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك ، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب ، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب : وأنزل الله في أبي طالب : ( إنك لا تهدي من أحببت ) ( 28 : 56 ) لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره ، والثانية نزلت فيه وحده . انتهى . ثم أيد الحافظ تعدد النزول بروايات أخرى فيمن استغفر لوالديه المشركين ومن استأذن في ذلك ، ومعنى ذلك أن الصحابة كانوا يقولون في الآية الدالة على حكم وقع له عدة أسباب : إنها نزلت في تلك الأسباب ، أي نزلت مبينة لحكم الله فيها وإن تأخرت عنها ، وسيأتي تحقيق هذه المسائل في محلها إن شاء الله تعالى .

ومن غريب التعصب للرأي أن السيوطي حاول في بعض رسائله إعلال أحاديث الزيارة ، فزعم أنه لم يروها أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن ، وحصر روايتها في الحاكم وأحمد وسائر من ذكر شيخه الحافظ بن حجر في شرح البخاري وأشرنا إليه آنفا ، كأنه ظن أنها لو كانت في الصحاح أو السنن لما اقتصر الحافظ على من ذكر من مخرجيها مع ما عرف من عادته أنه يذكر جميع طرق الحديث أو أقواها ، وفاته أنه إنما أراد هنا ذكر ما ثبت في سبب نزول الآية من أحاديث الزيارة ، وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه فيها ليس فيه ذكر نزول الآية في ذلك ، ولكن أين حفظ السيوطي رحمه الله تعالى ؟ أليس أهون ما يدل عليه هذا الإنكار أنه لم يكن حافظا للصحاح والسنن حفظا ، وإنما كان يراجع الكتب عند الحاجة وينقل منها نقلا ؟ .

ومما ذكر السيوطي في التقصي من حديث " إن أبي وأباك في النار " أن المراد بأبيه فيه عمه أبو طالب ، وفي حديث عرض كلمة التوحيد على أبي طالب ما يبطل دعواه إيمان جميع آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أن آخر ما قاله أبو طالب أنه على ملة عبد المطلب . فهو دليل على أن ملة عبد المطلب تنافي كلمة التوحيد التي هي عنوان الإسلام . ( ومنه ) زعمه أن الحديث قد نسخ ، ولعله نسي قول الأصوليين أن الأخبار لا تنسخ ، ولا نقول : إنه جهله ، فقد قرره في الإتقان تقريرا ، وقد تقدم أن إطلاق كلمة الأب على العم مجاز لا يصح [ ص: 454 ] في اللغة إلا بقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ، وسياق الحديث يعين المعنى الحقيقي ، فإذا جاز أن يكون السائل عن أبيه أراد عمه يجوز أن يكون معنى الحديث " إن عمي وعمك في النار " .

ولعمري إن من يقول هذه الأقوال لا يرد عليه ، ولا يصح أن يحكى قوله إلا في مقام التعجب أو مقام الاعتبار والرد ، على أن بعض العلماء ردوا عليه ، ومع ذلك اغتر كثيرون بما أورده في نجاة الأبوين ومن حديث إحيائهما وإيمانهما الذي قال بعض الحفاظ بوضعه ، وغاية ما قرره هو أنه ضعيف لا موضوع ، وهو معارض بالآيات والأحاديث الصحاح . ( ومنه ) أنهما من أهل الفترة ، وجمهور الأشاعرة على القول بنجاتهم ، ولكنهم استثنوا من ورد النص بأنهم من أهل النار ، وأقوى ما قاله هو وغيره ، وأرجاه ما ورد من الأحاديث في امتحان الله تعالى لأهل الفترة يوم القيامة ونجاة بعضهم به ، هذا إذا لم يصح ما نقلناه عن النووي من جزمه بأن مشركي العرب قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره ، وفيه بحث سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وإذا حق نجاة الأبوين الطاهرين بالامتحان يكون ما ورد فيهما خاصا بما قبل الامتحان .

التالي السابق


الخدمات العلمية