1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين
صفحة جزء
( تفسير الآيات )

( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ) هذه الجملة معطوفة على الجملة ( قل أندعوا من دون الله ) وما في حيزها - وهو آخر حجاج المشركين في العقائد مبدوء بالأمر القولي ، وسيعاد هذا الأسلوب في السورة حجاجا في الأحكام العملية أيضا - والظرف فيها متعلق بفعل عهد حذفه ، تقديره " اذكر " أي : واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك ما تقدم من الحجج على بطلان شركهم وضلالهم في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، ومن بيان هدي الله تعالى والإسلام له - اذكر لهم عقب هذا - قصة إبراهيم جدهم الذي يجعلون ويدعون اتباع ملته ، حين قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم : أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها ، وهو المستحق للعبادة من دونها ! ( إني أراك وقومك في ضلال مبين ) الضلال العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي أو المعنوي ، وغاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته ، وما شرعه من الأعمال والآداب للفوز بسعادة الدارين . وأما عبادة غير الله تعالى - ولو بقصد التقرب إليه - فهو مدس للنفس مفسد لها ، فلا يوصلها إلا إلى الهلاك الأبدي . والتعبير عنها بالضلال ليس فيه سب ولا جفاء ولا غلظة كما زعم من استشكله من الولد للوالد ، وقابله بأمر الله تعالى لموسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا ، وأجاب عنه بأنه حسن للمصلحة ، كالشدة في تربية الأولاد [ ص: 462 ] أحيانا ، ومن استدل به على أن آزر كان عم إبراهيم لا والده ، فالصواب أن التعبير بالضلال البين هنا بيان للواقع باللفظ الذي يدل عليه لغة ، كقوله تعالى : ( ووجدك ضالا فهدى ) ( 93 : 7 ) وكقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الحسي : إن الطريق من هنا ، فأنت حائد أو ضال عنه ، ومعنى قول إبراهيم لأبيه : إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك في ضلال - عن صراط الحق المستقيم - بين ظاهر لا شبهة للهدى فيه ، فإن هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة لكم لم تكن آلهة في أنفسها ، بل باتخاذكم وجعلكم ، ولستم من خلقها ولا من صنعها ، بل هي من صنعكم ، ولا تقدر على نفعكم ولا ضركم ، وذلك أنها تماثيل تنحتونها من الحجارة ، أو تقتطعونها من الخشب ، أو تصوغونها من المعدن ، فأنتم أفضل منها ، ومساوون في أصل الخلقة لمن جعلت ممثلة لهم من الناس ، أو لما صنعت مذكرة به من النيرات ، ولا يليق بالإنسان أن يعبد ما هو دونه ، ولا ما هو مساو له في كونه مخلوقا مقهورا بتصرف الخالق ، ومربوبا فقيرا محتاجا إلى الرب الغني القادر ، وقد دلت آثار أولئك القوم التي اكتشفت في العراق على صحة ما عرف في التاريخ من عبادتهم للأصنام الكثيرة ، حتى كان يكون لكل منهم صنم خاص به ، سواء الملوك والسوقة في ذلك ، وكانوا يعبدون الفلك ونيراته عامة ، والدراري السبع خاصة ، كما يعلم من قوله تعالى :

( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه ، وهو أنهم كانوا على ضلال بين في عبادتهم للأصنام ، كنا نريه المرة بعد المرة ملكوت السماوات والأرض على هذه الطريقة التي يعرف بها الحق ، فهي رؤية بصرية ، تتبعها رؤية البصيرة العقلية ، وإنما قال : " نريه " دون أريناه ؛ لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته تعالى في ذلك الملكوت العظيم كما يعلم من التعليل الآتي ، والتفصيل المترتب على هذا الإجمال في الآيات ، والملكوت : المملكة أو الملك العظيم والعز والسلطان ، وإطلاق الصوفية إياه على عالم الغيب اصطلاح . قال في اللسان : وملك الله تعالى وملكوته : سلطانه وعظمته ، ولفلان ملكوت العراق ، أي عزه وسلطانه وملكه ، وعن اللحياني : والملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة ، ويقال للملكوت ملكوة ( كترقوة ) . انتهى . وقال الراغب : والملكوت مختص بملك الله تعالى ، وهو مصدر ملك أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت . انتهى . وصرح بعضهم بأن هذه التاء للمبالغة على قاعدة زيادة المبنى لزيادة المعنى . فالملكوت : الملك العظيم ، والرحموت : الرحمة الواسعة ، والرهبوت : الرهبة الشديدة .

وروي عن عكرمة أن كلمة ملكوت نبطية ، وأصلها بلسانهم " ملكوتا " ، وفي كتب اللغة أن النبط والأنباط جيل من الناس يسكنون البطائح وغيرها من سواد العراق ، فهم بقايا قوم إبراهيم في وطنه الأصلي إذا كانت سلسلة نسبهم محفوظة ، ويقول المؤرخون : إنهم [ ص: 463 ] من بقايا العمالقة ، وأنهم هاجروا من العراق بعد سقوط دولة الحمورابيين ، وتفرقوا في جزيرة العرب ، ثم أنشئوا دولة في الشمال منها . وقد روي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما أن كلا منهما قال : إننا نبط من كوثى ، وكوثى بلد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كما يحفظ عن العرب . ومراد الحبرين أن بني هاشم من ذرية إبراهيم ، وأن النبط من قومه ، وفيه إنكار احتقارهم لنسبهم أو ضعف لغتهم ، وقيل : إن مرادهما به التواضع وذم التفاخر بالأنساب ، وروي عن ابن عباس أن المراد بملكوت السماوات والأرض خلقهما ، أي كقوله تعالى : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) ( 7 : 185 ) وعن مجاهد أنه آياتهما ، وعنهما وعن قتادة أنه الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار ، وعن مجاهد ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، والسدي أن الله تعالى أراه ما وراء مسارح الأبصار من السماوات والأرض حتى انتهى بصره إلى العرش ، وزاد بعضهم أنه أراه خفايا أعمال العباد ومعاصيهم ، وليس لهذه الأقوال الأخيرة حجة من الحديث المرفوع ، وإنما استنبطوها فيما يظهر من إسناد الإراءة إلى الله عز وجل ، فإنه يدل على عناية خاصة ، واختار ابن جرير مما رواه من تلك الأقوال أنه تعالى أراه من ملكوت السماوات والأرض ما فيهما من الشمس والقمر والشجر والدواب ، وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما ، وجلى له بواطن الأمور وظواهرها ، ويتحقق ذلك بهدايته إياه إلى وجوه الحجة فيها على وحدانيته تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ، وفضله ورحمته ، ويدل على ذلك تعليل الإراءة ، وما يترتب عليها من إقامة الحجة .

أما التعليل فقوله تعالى : ( وليكون من الموقنين ) قيل : إن المعنى : ولأجل أن يكون من أهل اليقين الراسخين فيه أريناه ما أرينا ، وبصرناه من أسرار الملكوت ما بصرنا ، وقيل : إن هذا عطف على تعليل حذف ؛ لتغوص الأذهان على استخراجه من قرائن الحال ، وأسلوب المقال ، أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا ، وحكمنا في تدبير ملكنا ، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا وألوهيتنا ؛ ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين ، وهو من الإيجاز البديع . واليقين في اللغة : الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات ، والدلائل ، والاستنباط - دون الحس والضرورة . وقال الراغب : هو سكون الفهم مع ثبات الحكم ، وأنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية ، وبذلك جمع إبراهيم بين العلم النظري والعلم اللدني .

التالي السابق


الخدمات العلمية