صفحة جزء
[ ص: 487 ] ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ) .

بين الله تعالى في الآيات السابقة لهذه بعض ما رفع من درجات إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم بين في هذه فضله ونعمه عليه في حسبه ونسبه ، وأعلاها جعل الكتاب والحكم والنبوة في ذريته ، فقال : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ) أي ووهبنا لإبراهيم بآية منا إسحاق نبيا من الصالحين ، ومن وراء إسحاق ولده يعقوب نبيا نجيبا منجبا للأنبياء والمرسلين ، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناهما من النبوة والحكمة وقوة الحجة . وتقديم " كلا " على " هدينا " لإفادة اختصاص كل منهما بما ذكر من الهداية على سبيل الاستقلال لا التبع ; لأن كلا منهما كان نبيا ، هاديا مهديا ، وإنما ذكر إسحاق من ولدي إبراهيم دون [ ص: 488 ] إسماعيل ، لأنه هو الذي وهبه الله تعالى له بآية منه بعد كبر سنه ويأس امرأته سارة على عقمها جزاء لإيمانه وإحسانه ، وكمال إسلامه لربه وإخلاصه ، بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل واستسلامه لأمر ربه في الرؤيا من غير تأويل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه ، وقد ولد له من سرية شابة ; ولذلك قال تعالى بعد ذكر قصة الذبح من سورة الصافات : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) 37 : 112 وسنبين حكمة تأخير ذكر إسماعيل وذكره مع من ذكر من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقال المفسرون والمؤرخون أن كلمة ( إسحاق ) معناها ( الضحاك ) وقيل : إن معناها الحرفي ( يضحك ) وقالوا : إنه ولد ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة ، ولأمه تسع وتسعون سنة ، وأنه عاش مائة وثمانين سنة وقال بعض علمائهم : إن معنى كلمة ( يعقوب ) الحرفي " أخذ العقب " والمراد يختلس ما يأخذه .

( ونوحا هدينا من قبل ) أي وهدينا جده نوحا - هديناه من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة ، وإرشاد الخلق وتلقين الحجة . قيل : إن اسم ( نوح ) من مادة النوح العربية والمشهور أنه أعجمي ، قال الكرماني : معناه بالعربية ( الساكن ) وقال مؤرخو أهل الكتاب : إن معناه ( راحة ) وأما قوله تعالى : ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ) فهو عطف على " ونوحا هدينا " أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ . وقد جزم ابن جرير شيخ المفسرين بأن الضمير في ذريته لنوح ، وتابعه على ذلك بعض المفسرين واحتجوا بأنه أقرب في الذكر ، وبأن لوطا ويونس ليسا من ذرية إبراهيم ، وزاد بعضهم أن ولد المرء لا يعد من ذريته ، فلا يقال إن إسماعيل من ذرية إبراهيم ، وهذا القول لا يصح لتصريح أهل اللغة بأن الذرية النسل مطلقا . وأخذ بعضهم من قوله تعالى : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) 36 : 41 أن الذرية تطلق على الأصول كما تطلق على الفروع وذلك بناء على أن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح . وقال بعضهم : إن الذرية هنا للفروع المقدرة في أصلاب الأصول ، والقول الآخر في الفلك المشحون ، أنه سفين التجارة التي كان المخاطبون يرسلون فيها أولادهم يتجرون .

وذهب سائر المفسرين إلى أن الضمير عائد إلى إبراهيم لأن الكلام في شأنه ، وما أتاه الله تعالى من فضله ، وإنما ذكر نوحا لأنه جده ، فهو لبيان نعم الله عليه في أفضل أصوله ، تمهيدا لبيان نعمه عليه في الكثير من فروعه ، ويزاد على ذلك أن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا . منفردا ومجتمعا كما قال تعالى في سورة الحديد : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) 57 : 26 وقال بعض هؤلاء : إن يونس من ذرية [ ص: 489 ] إبراهيم ، وإن لوطا ابن أخيه وقد هاجر معه فهو يدخل في ذريته بطريق التغليب ، ويعد منها بطريق التجوز الذي يسمون به العم أبا ، وتقدم بيان هذا التجوز في الكلام على أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في فاتحة تفسير هذا السياق .

وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا - ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح ، وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة ، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم .

فالقسم الأول : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون ، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله تعالى آتاهم الملك والإمارة ، والحكم والسيادة ، مع النبوة والرسالة ، وقد قدم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين ، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا ، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا ، ولكن كلا منهما قد ابتلي بالضراء فصبر كما ابتلي بالسراء فشكر ، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين ، ولكنهما لم يكونا ملكين ، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية ، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا ، وقد يكون على طريق الترقي في الدين فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا ، ودونهما أيوب ويوسف ، ودونهما موسى وهارون ، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف ، وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء والصبر في الضراء ، والله أعلم . وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء : ( وكذلك نجزي المحسنين ) أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق ، وهداية الدين وإرشاد الخلق ، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف : ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) 12 : 122 فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا ، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة ، ومنهم من يرجئ جزاءه إلى الآخرة .

والقسم الثاني : زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها ، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها ; ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين ، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم ، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق [ ص: 490 ] والقسم الثالث : إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول ، ولا من المبالغة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني ، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه ، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق ، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم متفاضلين في أنفسهم ، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له ، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره ، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى ، صلوات الله عليهم أجمعين ، وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا ; ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السورة ، والله المسئول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يحب ويرضى عز وجل .

وهذا البيان لترتيب هؤلاء الأنبياء ونكتة ما ذيل به كل قسم منهم هو مما فتح الله به علينا لم نعلم أن أحدا سبقنا إليه ، ولكن حوم بعضهم حوله فلم يقع عليه ، وقد قال صاحب " روح المعاني " وهو أفضل المفسرين المتأخرين ، وناهيك بسعة اطلاعه على أقوالهم وأقوال المتقدمين : " ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ، على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ، ومتأخر بالزمان على متقدم به ، وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى : ( وكذلك نجزي ) إلخ . وثانيا بقوله سبحانه : ( كل من الصالحين ) والله تعالى أعلم بأسرار كلامه " انتهى . ولله الحمد الذي يختص بفضله ورحمته من يشاء ، وقد يؤتى مفضولا ما لا يؤتى أفضل الفضلاء .

ونذكر هنا من مباحث اللفظ والقراءات أن القراء اختلفوا في قراءة اسم ( اليسع ) فقرأه الجمهور بلام واحدة محركا بوزن ( اليمن ) القطر المعروف ، وقرأ حمزة والكسائي بلامين أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن ( الضيغم ) قال بعض المفسرين : إن اليسع معرب الاسم العبراني يوشع فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الذي دخلت عليه في الشعر ، وقيل : إنه اسم عربي منقول من ( يسع ) مضارع ( وسع ) وأقول : الأقرب أنه تعريب ( اليشع ) وهو أحد أنبياء بني إسرائيل وكان الخليفة ( إلياس ) ( إيليا ) ومن المعهود في نقل العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة ، وقد استدل بعضهم بذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح على أن لفظ الذرية يشمل أولاد البنات ، وذكر الرازي أن الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف ذكر ذلك الآلوسي وقال : وأورد عليه أنه ( أي عيسى ) ليس له أب [ ص: 491 ] يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم ، وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، ذكر أن موسى الكاظم ( رض ) احتج بالآية على الرشيد ثم ذكر نقلا عن الرازي استدلال الباقر بها وبآية المباهلة قال : وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة والذي أميل إليه القول بالدخول . اهـ .

وأقول في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا : " إن ابني هذا سيد " يعني الحسن ، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات ، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا " وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم " وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة - رضي الله عنهم - أولاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبناؤه وعترته وأهل بيته .

واستدلوا بتفضيل من ذكر من الأنبياء على العالمين ، على تفضيل الأنبياء على الملائكة ، بناء على أن العالم اسم لما سوى الله تعالى وفيه نظر ، فإن العالمين في مثل هذه الآية لا يفهم منه إلا الناس أو الأقوام من الناس ، فهي كالآيات الناطقة بتفضيل بني إسرائيل على العالمين ولم يخطر في بال أحد قرأها أو فسرها أنها تدل على تفضيلهم على الملائكة ، ومثلها قوله تعالى حكاية عن قوم لوط : ( أولم ننهك عن العالمين ) 15 : 70 وقوله في إبراهيم : ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) 21 : 71 وهي أرض الشام بارك الله فيها لمن يسكنها من الناس لا للملائكة وغيرهم من عالم الغيب .

( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) أي وهدينا من آباء من ذكر من الأنبياء ، أي بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، ومن المعلوم أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدي ابنه أو أبيه أو أخيه من الأنبياء كأبي إبراهيم وابن نوح . قال تعالى في سورة الحديد : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) 57 : 26 وقيل : إن العطف هنا على ما قبله مباشرة ، أي وفضلنا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم - وهم الذين اهتدوا بهديهم - على غيرهم من عالمي زمانهم الذين لم يهتدوا مثلهم ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) وهذا عطف على ( فضلنا أي وفضلناهم واخترناهم واصطفيناهم بالاجتباء ، وهو افتعال من جبيت المال والماء في الحوض ، والثمرات الناضجة في الوعاء - إذا - جمعت ما تختاره منها ; ولذلك قال الراغب : الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء . ( ثم قال : واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد ، وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء ، ثم أورد الآيات في ذلك [ ص: 492 ] ومنها الآية التي نفسرها ، وقد أعيد ذكر الهداية لبيان متعلقها - وهو الصراط المستقيم - على ما فيه من التأكيد ، وليترتب عليه قوله :

( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ) أي ذلك الهدى إلى صراط مستقيم ، وهو ما كان عليه أولئك الأخيار مما ذكر من الدين القويم ، والفضل العظيم هو هدى الله الخاص الذي هو وراء جميع أنواع الهدى العام ، كهدى الحواس والعقل والوجدان ; لأنه عبارة عن الإيصال بالفعل إلى الحق والخير على الوجه الذي يؤدي إلى السعادة ، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة الفاتحة . وقوله : ( يهدي به من يشاء من عباده ) يقع على درجتين : ذلك في تفسير سورة الفاتحة . وقوله : ( يهدي به من يشاء من عباده ) يقع على درجتين : هداية ليس لصاحبها سعي لها ولا هي مما ينال بكسبه وهي النبوة المشار إليها بقوله تعالى : ( ووجدك ضالا فهدى ) 93 : 7 وهداية قد تنال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهي والتوفيق لنيل المراد ، وقد تقدم كلام بهذا المعنى في هذا السياق ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) أي ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المجتبون ، لحبط - أي بطل - وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملون بزوال أفضل آثار أعمالهم في أنفسهم الذي هو الأساس لما رفع من درجاتهم ; لأن توحيد الله تعالى لما كان منتهى الكمال المزكي للأنفس ، كان ضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسي لها ، والمفسد لفطرتها ، فلا يبقى معه تأثير نافع لعمل آخر فيها - يمكن أن يترتب عليه نجاتها وفلاحها .

التالي السابق


الخدمات العلمية