1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
صفحة جزء
( فإن قيل ) إن من ترك صلاة واحدة وصلى ما بعدها يكفر بترك ما ترك ، ويعود إلى الإسلام بأداء ما أدى . ( قلت ) إذا كان ترك الأولى كفرا بمعنى الخروج من الإسلام ، فلا يصح من فاعله التلبس بالثانية إلا إذا جدد إسلامه بالتوبة من الكفر والنطق بالشهادتين ، ويترتب على القول بكفره أحكام عظيمة الخطر ، منها حبوط جميع ما عمل من خير وبر ، واستحقاق القتل ، وأنه إذا مات لا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ويكون ماله فيئا لا يرثه ورثته . وناهيك بقول من قال : لا يشترط في قتل المرتد استتابته ، وهي رواية عن أحمد كما أنه روي عنه أنه لا يكفر ، وقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية أن الشافعي وأحمد تناظرا في تارك الصلاة فقال الشافعي : يا أحمد ، أتقول إنه يكفر ؟ قال : نعم ، قال : إذا كان كافرا فبم يسلم ؟ قال : بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله . قال الشافعي : فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه . قال : يسلم بأن يصلي . قال : صلاة الكافر لا تصح ، ولا يحكم بالإسلام بها ، فانقطع الإمام أحمد ( رحمهما الله تعالى ) .

وجملة القول : أن الذي يطمئن إليه القلب ، ويقتضيه فقه الدين وكونه رحمة لا نقمة ، ومنحة لا محنة ، أن من كان صحيح الإيمان والإسلام لا يخرج من الدين بترك صلاة أو أكثر بعذر أو كسل فيحبط عمله ، ويستحق الخلود في النار ، كما أنه لا يعقل أن يترك الصلاة دائما أو غالبا بأن يجعلها من العادات القومية الاجتماعية يوافق عليها المعاشرين أحيانا ، ويتركها أحيانا ، بحيث إذا صلى لا يقيم الصلاة بباعث الأمر الإلهي ونية القربة والجزاء في الآخرة ، وإذا تركها يتركها غير مال ولا متأثم كما يترك عادة من العادات المألوفة بين أهله وقومه ، هذا شأن من ليس له من الإسلام إلا اللقب الموروث من الملاحدة والزنادقة الذين لا يؤمنون بالوحي ، ولا بالبعث والجزاء ، وقد وصف الله المنافقين بقوله : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 4 : 142 ) فهل يكون مؤمنا صادقا من هو دونهم في هذا ؟

ويوجد من مسلمي التقاليد الجاهلين بحقيقة الدين وما شرعه الله له من إصلاح الأفراد والجماعات من يترك الصلاة أياما وشهورا ، وربما تمر السنة والسنون لا يصلي فيها إلا بعض [ ص: 158 ] الجمع والأعياد وقليلا من الفرائض ، وهو يؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر ، وما فيه من حساب وجزاء إيمانا تقليديا ناقصا مشوبا بشيء من الجهل والخرافات ، فهو في تركه للصلاة ، وفي غيره من المخالفات يعتقد أنه آثم ، ولكنه يتكل على مغفرة الله ورحمته أو على مكفرات الذنوب من حج وغيره أو على شفاعات الشافعين ، وقد ورد في هذه الثلاث أحاديث كثيرة منها الصحيح والضعيف والموضوع ، وهي تذكر في بعض الكتب المتداولة ، وخطب الجمعة المطبوعة ، التي يختارها على غيرها خطباء الفتنة الجاهلون ، والوعاظ الخرافيون ، يتقربون بها إلى العوام ، ليهونوا عليهم ارتكاب الآثام ، وناهيك بحديث عتقى الملايين في رمضان ، وهو افتراء على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وماذا تقول في حديث السجلات الذي عني بعض المحدثين بإثباته ، وهو أشد المجرئات على ترك الفرائض وارتكاب الموبقات .

فهؤلاء العوام الذين يغترون بهذه الروايات إذا قلنا بصحة إسلامهم التقليدي معذورون في عدم التمييز بين ما يصح منها ، وما لا يصح ، وعدم الجمع بين ما يصح منها وما يعارضها من نصوص الكتاب والسنة الواردة في الترهيب والنذر ، هم معذورون بالجهل حتى بما كان يعد في القرون الخالية معلوما من الدين بالضرورة ، ولم يعد كذلك ، فيجب على أهل العلم الصحيح تعليمهم ما يذهب بغرورهم كتقييد الآيات والأحاديث الواردة في المغفرة ، بمثل قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 20 : 82 ) وقوله حكاية لدعاء الملائكة للمؤمنين : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم إلى قوله : وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ( 4 : 7 - 9 ) وقوله تعالى في التوبة المقبولة : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ( 4 : 17 و18 ) وأمثال هذه الآيات ، وقد بينا هذه المسألة من قبل في مواضع من أوسعها وأهمها تفسير آيتي التوبة هاتين من سورة النساء [ في ص360 - 370 ج 4 ط الهيئة ] ، ومنها تفسير ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ( 4 : 14 ) [ ص353 وما بعدها ج 4 ط الهيئة ] ، أيضا كنا بينا جهل المتكلمين على الشفاعة في تفسير الآيات الواردة فيها من سورة البقرة وسورة الأنعام ، ومنه أن من تناله الشفاعة في الآخرة مجهول فهي مقيدة بقوله تعالى : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ( 21 : 28 ) .

والعلماء يخصون ما ورد في مكفرات الذنوب ومغفرتها بالصغائر بأدلة منها قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ( 4 : 31 ) وقوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ( 53 : 32 ) أي لهم ؛ لأن الآيات [ ص: 159 ] والأحاديث الواردة في العقاب على الذنوب كثيرة ، وهي نصوص قطعية لا يجوز تخلفها مطلقا ، ولهذا كان من أصول العقيدة أن نفوذ الوعيد في بعض العصاة حق ، فإذا عورضت نصوص العقاب المطلقة بنصوص المغفرة المطلقة ، جاءت النصوص المقيدة لها بالتوبة وإصلاح العمل واجتناب الكبائر حكما جامعا بين المطلقات ، وبقي الخطر على غير التائب المصلح ، فيجب عليه أن يغلب الخوف على الرجاء - إن صح أن يسمى غروره بجهله رجاء - وما الرجاء الصحيح إلا لمن سعى إلى المغفرة سعيها بالتوبة والعمل ورجاء الله قبولها .


ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

ومهما يكن من عذر للجاهل بما ورد في المغفرة وكفارات الذنوب ، فلا عذر له في ترك الصلاة ، وهي عمود الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه ، وأعظم المكفرات للذنوب ، وقد صحت الأخبار النبوية والآثار عن الصحابة بكفر تاركها ، ومن هذه الآثار ما رواه الترمذي والحاكم من أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكونوا يعدون شيئا من المعاصي كفرا إلا ترك الصلاة ، وما اعتمدناه في تأويلها لا يدخل فيه من يتركها في عامة أوقاته بحيث لا يصليها إلا قليلا لأسباب عارضة ، وإنما هو فيمن يترك صلاة أو صلوات قليلة متفرقة لأمر عارض ثم يتوب إلى الله تعالى ، فيجب على الوعاظ والخطباء أن يبينوا لهؤلاء العوام خطر ترك الصلاة ، وأن كل من يصدق عليه أنه تارك للصلاة فهو كافر كما ورد في أخبار وآثار كثيرة اكتفينا في أول هذا البحث بذكر بعضها ، وليراجع جملتها من شاء في كتاب الصلاة من كتاب الزواجر فهي مخيفة جدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية