1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله
صفحة جزء
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين ، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته ، وسقاية الحاج فيه ، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام ، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان ، وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر . وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . ( فدخل بعد الصلاة فاستفتاه ) فأنزل الله : أجعلتم سقاية الحاج إلى قوله : لا يهدي القوم الظالمين وروى الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب [ ص: 195 ] مكة فقال للعباس : أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد وأحجب البيت ، فأنزل الله : أجعلتم سقاية الحاج الآية . وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني ( أي الأسير ) فأنزل الله : أجعلتم سقاية الحاج .

وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب - فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ، ولو أشاء بت فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد . فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد . فأنزل الله : أجعلتم سقاية الحاج الآية كلها . فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات وإن لم تكن أسبابا .

والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان ؛ لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه - من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة - وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية ، والآيات تتضمن الرد عليها كلها . وفي أثر علي أن العباس ذكر حجابة البيت ، وهي لم تكن له دون السقاية التي كانت له ، وأثر ابن عباس فيه تقدم معناه في تفسير الآيتين السابقتين .

تقدم تفسير عمارة المسجد في اللغة والاصطلاح . والسقاية في اللغة : الموضع الذي يسقى فيه الماء وغيره ، وكذا الإناء الذي يسقى به ، ومنه : جعل السقاية في رحل أخيه ( 12 : 70 ) سميت سقاية ؛ لأنها يسقى بها ، وصواعا لأنها يكال بها كالصاع وهو يؤنث ويذكر . قال في اللسان ( كغيره ) والسقاية : الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها . ( ثم قال ) وفي الحديث كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام اهـ . والحديث الذي ذكره ورد في بعض روايات خطبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع .

وقال النووي في الأسماء واللغات ما نصه : سقاية العباس ـ رضي الله عنه ـ موضع بالمسجد الحرام زاده الله تعالى شرفا ، يستقي فيها الماء ؛ ليشربه الناس وبينها وبين زمزم أربعون ذراعا ، حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة وغيره من العلماء : أن السقاية حياض من أدم كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة ، ويستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل ويسقاه [ ص: 196 ] الحاج ، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف ، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها فكان يسقي الماء من بئر كرادم وغيره إلى أن مات ، ومن حصون خيبر اهـ .

أقول : وقد بنى هذا المكان المسمى بسقاية العباس ، ولا يزال ماثلا إلى الآن ، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم وصف مؤرخو مكة مساحتها وبعدها عن زمزم وعن الكعبة المشرفة .

ويؤخذ من استعمال الكلمة أنها صارت اسم حرفة ، وكذا الحجابة ، وهي سدانة البيت ، وهما أفضل مآثر قريش ، ولذلك أقرهما الإسلام ، ومن المعلوم بالبداهة أن قول العباس : أنا صاحب السقاية ، وقول الناس فيه كقوله لا يراد به أنه صاحب الموضع الذي كان يوضع فيه الماء المحلى بالزبيب أو التمر المنبوذ فيه ، ولا ذلك الماء ، وإنما المراد به أنه هو الذي يتولى إدارة هذا العمل ، وهو الإتيان بالزبيب أو التمر ونبذه بالماء ووضع أوانيه في الموضع التي يردها الحجاج فيشربون منها ، ومن العجب أن يغفل أي لغوي أو مفسر عن هذا المعنى ، ويقول بعضهم : إنها اسم لمكان السقي ، وبعضهم : إنها مصدر سقى أو أسقى إلخ .

قال عز وجل : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟ مقتضى حديث النعمان بن بشير أن الخطاب هنا للمؤمنين الذين تنازعوا : أي هذه الأعمال أفضل ؟ ومقتضى حديثي علي وابن عباس أن الخطاب للمشركين ، والاستفهام فيه للإنكار ، وتشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات كإسناد كل منهما إلى الآخر من ضروب الإيجاز المعهودة في بلاغة القرآن كقوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة ( 2 : 177 ) إلخ . وطريقة المفسرين في هذا معروفة ، وهي تحويل أحدهما إلى الآخر ليتحد المشبه والمشبه به ، والمسند والمسند إليه ، فيقولون هنا : أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل العمارة للبيت ، أو فاعل كل منهما ومتوليه ، كمن آمن بالله واليوم الآخر إلخ . وهو الموافق لبقية الآية وما بعدها . أو يقولون : أجعلتم هذه السقاية والعمارة كالإيمان بالله واليوم الآخر إلخ ؟ والاستفهام للإنكار المتضمن لمعنى النهي . أي : لا تفعلوا ذلك فإنه خطأ ظاهر كما بينه ما بعده . ونكتة هذا التعبير بيان أن هذا الفعل ليس كالفعل الآخر ، وأن الفاعل لكل منهما ليس كالآخر بل بينهما من التفاوت والدرجات ما بينه تعالى بيانا مستأنفا بقوله : لا يستوون عند الله إلى قوله : أجر عظيم أي : لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني في صفته ، ولا في عمله في حكم الله ، ولا في مثوبته وجزائه عنده في الدنيا ولا في الآخرة ، فضلا عن أن يفضله كما توهم بعض المسلمين ، وكما يزعم كبراء مشركي قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت [ ص: 197 ] ويستكبرون على الناس به ، كما قال تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون ( 23 : 67 ) . على القول بأن الضمير في ( به ) للبيت ، وإن لم يسبق له ذكر في الآيات التي قبل هذه الآية . قالوا : ؛ لأن اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم قوامه وسدنته وعماره أغنى عن سبق ذكره ، وكانت العرب تدين لهم بذلك ، لامتيازهم عليهم به ، وبسقاية حجاجه ، وكذا ضيافتهم وإن لم تكن عامة كالسقاية ؛ لأن الحاجة إليها لم تكن عامة ، إذ من المعلوم أن الحجاج كانوا وما زالوا أحوج إلى الماء في الحرم من الزاد ؛ لأن كل حاج كان يمكنه أن يحمل من الزاد ما يكفيه مدة سفره إلى الحرم ، وعودته بعد أداء المناسك ، ولا سيما العربي القنوع القليل الأكل ، ولكن لا يمكنه أن يحمل من الماء ما يكفيه كل هذه المدة ولا نصفها ، ولذلك كان أول شروط استطاعة الحج الزاد لإمكانه مع كفالة أولي الأمر في الحرم لتوفير الماء فيه ، وحكومة السنة السعودية في هذا العهد تزداد عنايتها في كل سنة بتوفير الماء ونظافته لمئات الألوف من الحجاج ، وأما سقيهم الماء المحلى فقد بطل منذ قرون كثيرة ؛ لأنه صار متعذرا لكثرتهم ، ولو كان ريع أوقاف الحرمين في الأقطار الإسلامية يضبط ويرسل إلى حكومة الحجاز لأمكنها إعادته ، ووضع نظام لتعميمه في مكة أو منى .

هذا - وإن فضيلة البيت الحقيقية التي بني لأجلها هي عبادة الله وحده فيه بما شرعه كما يحب ويرضى ، وقد جنى عليه المشركون ودنسوه بعبادة غيره فيه ، ثم بصد المؤمنين الموحدين له عنه ، كما قال : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ( 48 : 25 ) ثم إخراجهم إياهم من جواره ، لإيمانهم بربوبيته وألوهيته تعالى وحده دون ما أشركوه معه كما قال للمؤمنين : يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ( 60 : 1 ) وقال فيهم : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ( 22 : 40 ) فأي مزية تبقى مع هذه الجرائم لخدمة حجارته ، واحتكار مفتاحه ، وسقاية المشركين من حجاجه ؟ وأي ظلم أشد من هذا الظلم في موضوعه ؟ والله لا يهدي القوم الظالمين إلى الحق في أعمالهم ، ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم ، أي : ليس من سنته في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون الظالم مهديا إلى ما هو ضد صفة الظلم ، ومناف لها وهو الحق والعدل ؛ لأنه جمع بين ضدين بمعنى النقيضين ، والقوم الظالمون أشد إسرافا في الظلم من الأفراد ، وأبعد عن الهدى بغرورهم بقوتهم وتناصرهم . ومن أقبح هذا الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت ، وحفظ مفتاحه ، وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده المطهر للأنفس من خرافات الشرك وأوهامه - والإيمان باليوم الآخر الذي يزعها أن تبغي وتظلم ، ويحبب إليها الحق والعدل ، ويرغبها في الخير وعمل البر ، ابتغاء رضوان الله لا للفخر والرياء - وعلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وترقية شئون البشر في مدارج العلم والعمل .

[ ص: 198 ] ومن المعلوم أن هذا الجهاد يشمل القتال والنفقة فيه وغيرهما من أنواع مجاهدة الكفار ، ومجاهدة النفس ، لإبلاغها مقام الكمال . وهذه الجملة ظاهرة في الرد على المشركين ، وإبطال تبجحهم وفخرهم على المؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية