1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة التوبة
  4. تفسير قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله
صفحة جزء
ولما كان نفي استواء الفريقين ، ونفي اهتداء الظالمين إلى الحكم الصحيح في موضوع المفاضلة بينهما - وإن اقتضيا بمعونة السياق تفضيل فريق المؤمنين المجاهدين على فريق السدنة والسقائين - لا يعرف منهما كنه هذا الفضل ، ولا درجة أهله عند الله تعالى ، وكان ذلك مما يستشرف له التالي والسامع ، بينه تبارك اسمه بيانا مستأنفا يتضمن الرد على المؤمنين الذين تنازعوا في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الأعمال بعد الإسلام أفضل " ؟ فقال : الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله هذه العندية حكمية شرعية ، ومكانية جزائية ، أي : أعظم درجة وأعلى مقاما في الفضل والكمال في حكم الله ، وأكبر مثوبة في جوار الله من أهل سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ، الذي رأى بعض المسلمين أن عملهم أفضل القربات بعد هداية الإسلام ، ومن غيرهم من أهل البر والصلاح ، الذين لم ينالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه المالي والنفسي يدل على هذا العموم في التفضيل عدم ذكر المفضل عليه .

( فإن قيل ) إن هذا التفسير يدل على أن ما يفتخر به المشركون على المؤمنين من السقاية والعمارة له درجة عند الله تعالى ، ولكن درجة الإيمان مع الهجرة والجهاد أعظم - وقد سبق في الآيتين اللتين قبل هذه الآية خلاف ذلك . ( قلنا ) لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها درجة عند الله تعالى إذا فعلا كما يرضى الله ، ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف الجاهلية ، ولكن الشرك بالله تعالى يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها كما تقدم .

وأولئك هم الفائزون أي : وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله الفضلى ، وكرامته العليا المبينة في الآية التالية دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث ، وإن سقى الحاج ، وعمر المسجد الحرام ، فثواب المؤمن على هذين العملين ، دون ثوابه على الهجرة والجهاد المذكورين ، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة ، فإن الكفر بالله ورسله وباليوم الآخر يحبط أمثال هذه الأعمال البدنية ، وإن فرض فيها حسن النية ، وقلما يفعلها الكافر إلا لأجل الرياء والسمعة .

وها هنا تستشرف النفس لمعرفة هذا الفوز المجمل فبينه تعالى بقوله : يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على لسان نبيه المرسل ، ثم على لسان ملائكته عند الموت برحمة منه أي : رحمة عظيمة من لدنه عز وجل ورضوان أي : نوع من الرضى التام الكامل الذي لا يشوبه ، ولا يعقبه سخط ، يدل على هذا المعنى زيادة لفظ رضوان في المبنى على لفظ [ ص: 199 ] رضى مع تنكيره ، ويؤيده الحديث الصحيح الآتي وجنات تجري من تحتها الأنهار في دار الكرامة وجوار الرحمن لهم فيها نعيم مقيم أي : لهم فيها نعيم عظيم خاص بهم دون من لم يؤمن ، ولم يهاجر هجرتهم ، ولم يجاهد جهادهم ، مقيم دائم لا يزول على عظمه وكماله الذي يدل عليه تنكير لفظه في هذا السياق أيضا .

خالدين فيها أبدا أي : مقيمين في تلك الجنات إقامة أبدية . أكد الخلود بالأبدية ؛ لأن معناه اللغوي طول المكث والإقامة ، كما قال : عطاء غير مجذوذ ( 11 : 108 ) وتقدم تفسير الخلود والأبد في مثل هذا اللفظ مرارا إن الله عنده أجر عظيم أي : لأن ما عند الله تعالى من الأجر على الإيمان والعمل الصالح - وأعظمه وأنفعه وأشقه الهجرة والجهاد - عظيم جدا لا يقدر قدره غيره جل جلاله وعم نواله ، وناهيك بالإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ، ومفارقة الأهل والسكن ، وإنفاق المال الذي هو مناط رغائب الدنيا ونعيمها ، وبذل النفس التي هي العلة الغائية للبشر من وجودهم ، جهادا في سبيل الله ، وهي الطريق التي شرعها ، والسنن التي سنها ، لإعلاء كلمته ونصر رسوله ، وإقامة ما شرعه من الحق والعدل لعباده ، فلا غرو أن يبشرهم بجميع أنواع الأجر والجزاء الروحية والجسدية . فالأجر الروحاني قسمان ، عبر عنهما بالرحمة والرضوان ، وهما رتبتان أو درجتان ، نكرهما للدلالة على التنويع والتعظيم الذي نطقت به الآية الثانية ، فهذه الرحمة الخاصة ، تشمل ما يخصهم به من العطف والإحسان في الدنيا والآخرة ، مما هو فوق رحمته العامة لكل الخلق ، التي وسعت كل شيء ، وأما الرضوان وهو الاسم لكمال الرضاء كما تقدم فهو فوق نعيم الجنة كله فإن الله يرحم من رضي عنه ، ومن لم يرض عنه وإن كانت رحمته لمن رضي عنه أعلى وأعظم ، والدليل على أن هذا الرضوان أعلى النعيم وأكمل الجزاء ، وأنه يكون في الجنة أكبر نعيمها قوله تعالى في هذه السورة : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ( 72 ) فقد عطف الرضوان على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد ، للدلالة على أنه فضل مستقل فوق الجزاء الذي تقدمه في الوعد وهو الجنات وما فيها - فهذه الآية أبلغ في تعظيم شأن الرضوان الإلهي في الجنة من آية هذا السياق ، ومن آية آل عمران التي أنزلت قبلهما : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ( 3 : 15 ) ويؤيد ما قلناه من أن رضوان الله تعالى في الجنة فوق نعيمها كله ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة : فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، [ ص: 200 ] قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا .

ومن تنطع بعض الصوفية في فلسفتهم أنهم لا يطلبون من الله النجاة من النار ، ولا الفوز بالجنة ، وإنما يطلبون النعيم الروحاني الأعلى فقط ، وهو لقاؤه ورضوانه ورؤيته عز وجل ، وإنها لفلسفة جهلية من نزعات منكري البعث الجسماني ، مخالفة لنصوص كتاب الله تعالى وهدي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدم بيانه في غير هذا الموضع .

وأكبر العبر للمسلم في هذا السياق أن البدع الطارئة على الدين يقصد بها في أول أمرها أن تكون مزيد كمال في الدين تقوي أصوله ، وما شرع لأجله ، ثم ينتهي ذلك بهدم أصوله وما شرع له . وإقامة البدعة مقامها كما يعلم مما رواه البخاري عن ابن عباس في سبب عبادة قوم نوح " لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر " من أنهم كانوا قوما صالحين ، فصوروهم بعد موتهم لأجل الذكرى والاتباع ، ثم عبدوهم وعبدوا صورهم بالتعظيم والدعاء والتوسل والاستشفاع وغير ذلك ، ثم صارت عبادة الله وحده منكرة عندهم ، ثم سرى ذلك الشرك في العرب وغيرهم ، حتى آل الأمر إلى منع عبادة الله تعالى وحده في بيته الحرام ، ومنع المسلمين من دخوله لعبادته وحده كما تقدم - وهكذا شأن كل بدعة : يئول أمر أهلها إلى محاربة السنة ، وعداوة من يعتصم بها ، وينكر البدع المحدثة التي لعن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهلها ، كما فعل ويفعل المبتدعون في تكفير الوهابية وغيرهم من دعاة السنة والمعتصمين بها أو تضليلهم ، وقتالهم عند الإمكان .

التالي السابق


الخدمات العلمية