ولما كان نفي استواء الفريقين ، ونفي اهتداء الظالمين إلى الحكم الصحيح في موضوع المفاضلة بينهما - وإن اقتضيا بمعونة السياق تفضيل فريق المؤمنين المجاهدين على فريق السدنة والسقائين - لا يعرف منهما كنه هذا الفضل ، ولا درجة أهله عند الله تعالى ، وكان ذلك مما يستشرف له التالي والسامع ، بينه تبارك اسمه بيانا مستأنفا يتضمن الرد على المؤمنين الذين تنازعوا في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الأعمال بعد الإسلام أفضل " ؟ فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=20nindex.php?page=treesubj&link=28980الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله هذه العندية حكمية شرعية ، ومكانية جزائية ، أي : أعظم درجة وأعلى مقاما في الفضل والكمال في حكم الله ، وأكبر مثوبة في جوار الله من أهل سقاية الحاج ، وعمارة
المسجد الحرام ، الذي رأى بعض المسلمين أن عملهم أفضل القربات بعد هداية الإسلام ، ومن غيرهم من أهل البر والصلاح ، الذين لم ينالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه المالي والنفسي يدل على هذا العموم في التفضيل عدم ذكر المفضل عليه .
( فإن قيل ) إن هذا التفسير يدل على أن ما يفتخر به المشركون على المؤمنين من السقاية والعمارة له درجة عند الله تعالى ، ولكن درجة الإيمان مع الهجرة والجهاد أعظم - وقد سبق في الآيتين اللتين قبل هذه الآية خلاف ذلك . ( قلنا ) لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها درجة عند الله تعالى إذا فعلا كما يرضى الله ، ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف الجاهلية ، ولكن الشرك بالله تعالى يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها كما تقدم .
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=20وأولئك هم الفائزون أي : وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله الفضلى ، وكرامته العليا المبينة في الآية التالية دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث ، وإن سقى الحاج ، وعمر
المسجد الحرام ، فثواب المؤمن على هذين العملين ، دون ثوابه على الهجرة والجهاد المذكورين ، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة ، فإن الكفر بالله ورسله وباليوم الآخر يحبط أمثال هذه الأعمال البدنية ، وإن فرض فيها حسن النية ، وقلما يفعلها الكافر إلا لأجل الرياء والسمعة .
وها هنا تستشرف النفس لمعرفة هذا الفوز المجمل فبينه تعالى بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على لسان نبيه المرسل ، ثم على لسان ملائكته عند الموت
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21برحمة منه أي : رحمة عظيمة من لدنه عز وجل ورضوان أي : نوع من الرضى التام الكامل الذي لا يشوبه ، ولا يعقبه سخط ، يدل على هذا المعنى زيادة لفظ رضوان في المبنى على لفظ
[ ص: 199 ] رضى مع تنكيره ، ويؤيده الحديث الصحيح الآتي وجنات تجري من تحتها الأنهار في دار الكرامة وجوار الرحمن
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21لهم فيها نعيم مقيم أي : لهم فيها نعيم عظيم خاص بهم دون من لم يؤمن ، ولم يهاجر هجرتهم ، ولم يجاهد جهادهم ، مقيم دائم لا يزول على عظمه وكماله الذي يدل عليه تنكير لفظه في هذا السياق أيضا .
خالدين فيها أبدا أي : مقيمين في تلك الجنات إقامة أبدية . أكد الخلود بالأبدية ؛ لأن معناه اللغوي طول المكث والإقامة ، كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108عطاء غير مجذوذ ( 11 : 108 ) وتقدم تفسير الخلود والأبد في مثل هذا اللفظ مرارا
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=22إن الله عنده أجر عظيم أي : لأن ما عند الله تعالى من الأجر على الإيمان والعمل الصالح - وأعظمه وأنفعه وأشقه الهجرة والجهاد - عظيم جدا لا يقدر قدره غيره جل جلاله وعم نواله ، وناهيك بالإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ، ومفارقة الأهل والسكن ، وإنفاق المال الذي هو مناط رغائب الدنيا ونعيمها ، وبذل النفس التي هي العلة الغائية للبشر من وجودهم ، جهادا في سبيل الله ، وهي الطريق التي شرعها ، والسنن التي سنها ، لإعلاء كلمته ونصر رسوله ، وإقامة ما شرعه من الحق والعدل لعباده ، فلا غرو أن يبشرهم بجميع أنواع الأجر والجزاء الروحية والجسدية . فالأجر الروحاني قسمان ، عبر عنهما بالرحمة والرضوان ، وهما رتبتان أو درجتان ، نكرهما للدلالة على التنويع والتعظيم الذي نطقت به الآية الثانية ، فهذه الرحمة الخاصة ، تشمل ما يخصهم به من العطف والإحسان في الدنيا والآخرة ، مما هو فوق رحمته العامة لكل الخلق ، التي وسعت كل شيء ، وأما الرضوان وهو الاسم لكمال الرضاء كما تقدم فهو فوق نعيم الجنة كله فإن الله يرحم من رضي عنه ، ومن لم يرض عنه وإن كانت رحمته لمن رضي عنه أعلى وأعظم ، والدليل على أن هذا الرضوان أعلى النعيم وأكمل الجزاء ، وأنه يكون في الجنة أكبر نعيمها قوله تعالى في هذه السورة :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ( 72 ) فقد عطف الرضوان على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد ، للدلالة على أنه فضل مستقل فوق الجزاء الذي تقدمه في الوعد وهو الجنات وما فيها - فهذه الآية أبلغ في تعظيم شأن الرضوان الإلهي في الجنة من آية هذا السياق ، ومن آية آل عمران التي أنزلت قبلهما :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ( 3 : 15 ) ويؤيد ما قلناه من أن رضوان الله تعالى في الجنة فوق نعيمها كله ما رواه الشيخان
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920231قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة : فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، [ ص: 200 ] قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا .
ومن تنطع بعض
الصوفية في فلسفتهم أنهم لا يطلبون من الله النجاة من النار ، ولا الفوز بالجنة ، وإنما يطلبون النعيم الروحاني الأعلى فقط ، وهو لقاؤه ورضوانه ورؤيته عز وجل ، وإنها لفلسفة جهلية من نزعات منكري البعث الجسماني ، مخالفة لنصوص كتاب الله تعالى وهدي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدم بيانه في غير هذا الموضع .
وأكبر العبر للمسلم في هذا السياق أن البدع الطارئة على الدين يقصد بها في أول أمرها أن تكون مزيد كمال في الدين تقوي أصوله ، وما شرع لأجله ، ثم ينتهي ذلك بهدم أصوله وما شرع له . وإقامة البدعة مقامها كما يعلم مما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في سبب عبادة قوم
نوح " لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر " من أنهم كانوا قوما صالحين ، فصوروهم بعد موتهم لأجل الذكرى والاتباع ، ثم عبدوهم وعبدوا صورهم بالتعظيم والدعاء والتوسل والاستشفاع وغير ذلك ، ثم صارت عبادة الله وحده منكرة عندهم ، ثم سرى ذلك الشرك في العرب وغيرهم ، حتى آل الأمر إلى منع عبادة الله تعالى وحده في بيته الحرام ، ومنع المسلمين من دخوله لعبادته وحده كما تقدم - وهكذا شأن كل بدعة : يئول أمر أهلها إلى محاربة السنة ، وعداوة من يعتصم بها ، وينكر البدع المحدثة التي لعن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهلها ، كما فعل ويفعل المبتدعون في تكفير
الوهابية وغيرهم من دعاة السنة والمعتصمين بها أو تضليلهم ، وقتالهم عند الإمكان .
وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَنَفْيُ اهْتِدَاءِ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي مَوْضُوعِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا - وَإِنِ اقْتَضَيَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ تَفْضِيلَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى فَرِيقِ السَّدَنَةِ وَالسَّقَّائِينَ - لَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا كُنْهُ هَذَا الْفَضْلِ ، وَلَا دَرَجَةُ أَهْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَشْرِفُ لَهُ التَّالِي وَالسَّامِعُ ، بَيَّنَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَيُّ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ " ؟ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=20nindex.php?page=treesubj&link=28980الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ حُكْمِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ ، أَيْ : أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَعْلَى مَقَامًا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللَّهِ ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ، وَعِمَارَةِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، الَّذِي رَأَى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ ، الَّذِينَ لَمْ يَنَالُوا فَضْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ بِنَوْعَيْهِ الْمَالِيِّ وَالنَّفْسِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي التَّفْضِيلِ عَدَمُ ذِكْرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) إِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لَهُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنْ دَرَجَةُ الْإِيمَانِ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَعْظَمُ - وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ ذَلِكَ . ( قُلْنَا ) لَا مِرَاءَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَكُونُ لِصَاحِبِهَا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا فُعِلَا كَمَا يَرْضَى اللَّهُ ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ تَعَالَى يُحْبِطُهُمَا وَيُحْبِطُ غَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=20وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ أَيْ : وَأُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَثُوبَةِ اللَّهِ الْفُضْلَى ، وَكَرَامَتِهِ الْعُلْيَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ سَقَى الْحَاجَّ ، وَعَمَرَ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَثَوَابُ الْمُؤْمِنِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ ، دُونَ ثَوَابِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَلَا ثَوَابَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُحْبِطُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَإِنْ فُرِضَ فِيهَا حُسْنُ النِّيَّةِ ، وَقَلَّمَا يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ .
وَهَا هُنَا تَسْتَشْرِفُ النَّفْسُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْفَوْزِ الْمُجْمَلِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَيْ : رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانٍ أَيْ : نَوْعٍ مِنَ الرِّضَى التَّامِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ ، وَلَا يَعْقُبُهُ سَخَطٌ ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ لَفْظِ رِضْوَانٍ فِي الْمَبْنَى عَلَى لَفْظِ
[ ص: 199 ] رِضًى مَعَ تَنْكِيرِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْآتِي وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=21لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَيْ : لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ عَظِيمٌ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ، وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ : مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً . أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ ، كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 11 : 108 ) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=22إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ : لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا ، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا ، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا ، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ . فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 72 ) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا - فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=15قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 3 : 15 ) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920231قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ : فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، [ ص: 200 ] قَالُوا : يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
وَمِنْ تَنَطُّعِ بَعْضِ
الصُّوفِيَّةِ فِي فَلْسَفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ ، وَلَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ الْأَعْلَى فَقَطْ ، وَهُوَ لِقَاؤُهُ وَرِضْوَانُهُ وَرُؤْيَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَهْلِيَّةٌ مِنْ نَزَعَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ ، مُخَالِفَةٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَدْيِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُسْلِمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْبِدَعَ الطَّارِئَةَ عَلَى الدِّينِ يُقْصَدُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الدِّينِ تُقَوِّي أُصُولَهُ ، وَمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ ، ثُمَّ يَنْتَهِي ذَلِكَ بِهَدْمِ أُصُولِهِ وَمَا شُرِعَ لَهُ . وَإِقَامَةِ الْبِدْعَةِ مَقَامَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ عِبَادَةِ قَوْمِ
نُوحٍ " لِوَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ " مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ ، فَصَوَّرُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَجْلِ الذِّكْرَى وَالِاتِّبَاعِ ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا صُوَرَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ صَارَتْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُنْكَرَةٌ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَنْعِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ ، وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِهِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ بِدْعَةٍ : يَئُولُ أَمْرُ أَهْلِهَا إِلَى مُحَارَبَةِ السُّنَّةِ ، وَعَدَاوَةِ مَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا ، وَيُنْكِرُ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَعَنَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَهَا ، كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي تَكْفِيرِ
الْوَهَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ دُعَاةِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَصِمِينَ بِهَا أَوْ تَضْلِيلِهِمْ ، وَقِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ .