صفحة جزء
[ ص: 286 ] ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .

لما بين عز وجل غرور المشركين الجاهلين بمتاع الحياة الدنيا ، قفى عليه ببيان ما يدعو إليه من سعادة الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال :

( والله يدعو إلى دار السلام ) الجملة عطف على محذوف يدل عليه السياق وقرينة المقابلة أي ذاك الإيثار لمتاع الدنيا والإسراف والبغي فيه ، هو ما يدعو إليه الشيطان ، فيسوق متبعيه إلى النار ، دار الخزي والنكال ، والله يدعو عباده إلى دار السلام وهي الجنة ، وفي المراد بــ ( ( السلام ) ) الذي أضيفت إليه ( ( الدار ) ) وجوه يصح أن تراد كلها ( أولها ) أنه السلامة من جميع الشوائب والمصائب والمعايب ، والنقائص والأكدار ، والعداوة ، والخصام ، ( الثاني ) أنه تحية الله وملائكته لأهلها ، وتحية بعضهم لبعض الدالة على تحابهم وتوادهم وقد تقدم شرحه قريبا . ( ثالثها ) أن ( ( السلام ) ) من أسمائه عز وجل ، وأضيفت دار النعيم إليه تعظيما لشأنها ، وهو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل ، ويدل على كمال التنزيه والسلامة من كل ما لا يليق برب العالمين الرحمن الرحيم ، وفي بعض الأحاديث إضافة هذه الدار إلى ضمير الذات ( داري ) .

( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) عطف على ما قبله ، أي يدعو كل أحد إلى دخول ( ( دار السلام ) ) ويهدي من يشاء إلى الطريق الموصل إليها من غير تعويق ؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، وهو الإسلام عقائده وفضائله وعباداته وأحكامه ، والهداية في الأصل الدلالة بلطف ، وتكون بالتشريع وهو بيانه ، وهي عامة ، وبالتوفيق للسير عليه والاستقامة [ ص: 287 ] الموصلة إلى الغاية ، وهي خاصة بالمستعدين لذلك كما فصلناه في تفسير سورة الفاتحة ، وهي المرادة هنا ولذلك قيدها بالمشيئة .

( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) هذا بيان لصفة الذين هداهم إلى صراط الإسلام ، فوصلوا بالسير عليه إلى غايته وهي ( ( دار السلام ) ) أي للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا المثوبة ( ( الحسنى ) ) أي التي تزيد في الحسن على إحسانهم ، وهي مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر ، كما قال في سورة النجم : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ( 53 : 31 ) ولهم زيادة على هذه الحسنى ، وهي فوق ما يستحقونه على أعمالهم بعد مضاعفتها التي هي من جزائها مهما تكن حسنة ، كما قال : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) ( 4 : 173 ) وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم ، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة ، وقد فصلنا القول فيه في تفسير سورة الأعراف ( ص 112 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) بما يقربه من العقل والعلم العصري ، ويدحض شبهات المعتزلة المنكرين له بزعمهم أنه محال عقلا ، وما هذا المحال إلا نظريات عقولهم التي تقيس عالم الغيب على عالم الشهادة ، وقد ظهر في هذا العصر من علوم المادة ما لم يكن يقبله عقل من العقول المقيدة بتلك النظريات المتولدة من الفلسفة اليونانية والكلام الجهمي ، فكيف يكون عالم الغيب الإلهي مقيدا بها ؟ !

وثم وراء العقل علم يدق عن مدارك غايات العقول السليمة

( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) رهق الرجل الشيء ( كتعب ) أدركه ورهقه الشيء كالدين والذل غشيه ، وغلب عليه حتى غطاه وحجبه : ( ولا ترهقني من أمري عسرا ) ( 18 : 73 ) لا تكلفني ما يعسر علي ، والقتر : الدخان الساطع من الشواء والحطب وكل غبرة فيها سواد أي لا يغشى وجوههم في الآخرة شيء مما يغشى وجوه الكفرة الفجرة من الكسوف والظلمة والذلة ، كما يأتي قريبا في المقابلة بين الفريقين ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة دار السلام والإكرام ، خالدون مقيمون فيها لا يبرحونها والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها جزاء وفاقا ، لا يزادون على ما يستحقون بسيئاتهم من العذاب شيئا وترهقهم ذلة أي تغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور ( ما لهم من الله من عاصم ) ما لهم من أحد ولا من شيء يعصمهم ويمنعهم من عذاب الله ، كالذين اتخذوهم في الدنيا من الشركاء ، وزعموهم من الأولياء والشفعاء . وانتحلوهم من الوسائل والوسطاء ؛ لأنه اليوم الذي تنقطع فيه الأسباب التي مضت بها سنن الله تعالى في الدنيا ، فأنى تفيد فيه المزاعم الشركية الوهمية : ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) [ ص: 288 ] أو ما لهم من عند الله ومن فضله من عاصم يحفظهم من عذابه كعفوه ومغفرته ؛ فإنه لا يغفر أن يشرك به ، كالشفعاء الذين يشفعون بإذنه لمن ارتضى من عباده إظهارا لكرامتهم ؛ لأن هذه الشفاعة الخاصة لا نصيب فيها لمنتحلي الشفاعة الشركية ، الذين كانوا يزعمون في الدنيا أن لشفعائهم تأثيرا في مشيئة الله وأفعاله ، حتى يحملوه على فعل ما لم يكن يفعله لولا شفاعتهم ، فيجعلون ذاته وصفاته وأفعاله معلولة تابعة لما يطلبونه منه ، وأما شفاعة الإيمان الصحيحة فهي تابعة لمشيئته ولمرضاته ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ( 21 : 28 ) ( كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) أي كأنما قد لوجوههم قطع من أديم الليل ، حالة كونه حالكا مظلما ، ليس فيه بصيص من نور قمر طالع ، ولا نجم ثاقب ، فأغشيتها قطعة بعد قطعة ، فصارت ظلمات بعضها فوق بعض ، وإنه لتشبيه عظيم في بلاغة المبالغة في خذلانهم وفضيحتهم التي تكسف نور الفطرة ، والظاهر أن سواد وجوههم حقيقي ومجازي ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم أصحاب النار ، خالدون فيها لا يبرحونها لأنه ليس لهم مأوى سواها كما تقدم في آية أخرى . وقد يدخلها بعض عصاة المؤمنين فيعاقبون على ما اجترحوا من السيئات ثم يخرجون منها .

هذا الوصف لأهل الجنة وأهل النار له نظير في آخر سورة الأعمى : ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) ( 8 : 38 - 42 ) وفي سورة القيامة : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ) ( 75 : 22 - 25 ) وهذه المقابلة في سورة القيامة ترجح أن الزيادة على الحسنى في آية يونس هي مرتبة النظر إلى الرب ، فنسأله تعالى أن يجعلنا وأولادنا وأهل بيتنا وإخواننا الصادقين من أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية