صفحة جزء
( نموذج من قصور أقوال المفسرين وغلطهم وتقليدهم في تفسير الآية ) :

( 1 ) الروايات المأثورة والمعتمدون عليها :

روى الإمام ابن جرير المتوفى سنة 310 هـ عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسر الآية بالركون إلى الشرك ( وهو أقوى ما روي فيها ) وروي عنه تفسيره بالميل وأنه قال : لا تميلوا إلى الذين ظلموا . وروى عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم - ولا تركنوا - لا تذهبوا ، وهو ليس تفسيرا بالمعنى اللغوي ، ولا يظهر المراد الشرعي منه إلا بقرينة ما قبله إن جمع بينهما بإرادة المشركين الظالمين للمؤمنين ، وروي عن عكرمة أنه فسر ( الركون " بالطاعة أو المودة أو الاصطناع ، وعن أبي العالية قال : لا ترضوا أعمالهم ( وهو تفسير بأحد اللوازم البعيدة ) وعن الحسن قال : خصلتان إذا صلحتا للعبد صلح ما سواهما من أمره : الطغيان في النعمة ، والركون إلى الظلم ، ثم تلا الآية ، وهذا من فقه الآيتين لا تفسير لهما . وعن قتادة قال : يعني لا تلحقوا بالشرك وهو الذي خرجتم منه . وأخذ ابن جرير خلاصة هذه الروايات فقال في تفسير الآية : ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله ، فتقبلوا منهم وترضوا عن أعمالهم فتمسكم النار بفعلكم إلخ .

وما قاله ورواه حق في نفسه ولكنه لا يحيط بمعنى الآية ، وما كانت تلك الروايات [ ص: 144 ] إلا كلمات مجملة وجيزة ذكرت بالمناسبة لا يقصد تحقيق معنى الآية في لغتها وأسلوبها وموقعها من العبرة بقصص الرسل مع أقوامهم الظالمين . وقال مثله كل من البغوي وابن كثير فإنهما يعتمدان على المأثور قل أو كثر .

( 2 ) قال أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370 هـ في تفسيره ( أحكام القرآن ) : والركون إلى الشيء : هو السكون إليه والمحبة ، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم ، وهو مثل قوله - تعالى - : - فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين - 6 : 68 انتهى . وقد أبعد كل البعد ، وإنما هو فقيه لا لغوي ولا مفسر عام .

( 3 ) قال الزمخشري المعتزلي المتوفى سنة 528 هـ في كشافه بعد ذكر القراءات في الآية : والنهي متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم ، وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ، وتأمل قوله : - ولا تركنوا - فإن الركون هو الميل اليسير ، وقوله : - إلى الذين ظلموا - أي إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل : إلى الظالمين . انتهى المراد منه . وذكر بعده حكاية صلاة الموفق خلف الإمام الذي قرأ الآية فغشي عليه وتقدمت ، وموعظة بليغة وعظها للزهري أحد إخوانه من عباد السلف وزهادهم .

أقول : كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه ، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة ، ولكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها والمخاطب الأول بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون إلى التوبة من الشرك والإيمان معه ، ولم يكن أحد منهم مظنة الانقطاع لظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا بأعمالهم ، وأما زيارتهم ومصاحبتهم ومجالستهم والتزيي بزيهم وأمثال ذلك من العادات فلم يكونوا منهيين عنه ، بل كان زي المؤمنين وزيهم واحدا وعاداتهم الدنيوية واحدة ، إلا ما كان قبيحا نهى عنه الإسلام ، وكانت صلة الرحم معهم مشروعة زادها الإسلام تأكيدا ، وكذلك سائر فضائل المعاشرة . ولما نزلت هذه السورة كان المسلمون ضعفاء في مكة والمشركون أقوياء فيها ، ولما نزلت سورة الممتحنة كان الأمر بالعكس إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عازما على الزحف بالمؤمنين لفتح مكة ، وكان الفصل فيها في معاملتهم للمشركين أن الله - تعالى - لا ينهاهم عن الذين لم يقاتلوهم في الدين أن يبروهم ويقسطوا إليهم ، وإنما ينهاهم عن الذين قاتلوهم في الدين . . . . أن يتولوهم وينصروهم .

[ ص: 145 ] ( 4 ) وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هـ في أحكام القرآن : في الآية مسألتان :

( الأولى ) الركون فيه اختلاف بين النقلة للتفسير ، وحقيقته الاستناد والاعتماد على الذين ظلموا .

( المسألة الثانية ) قيل في الذين ظلموا إنهم المشركون ، وقيل : إنهم المؤمنون ، وأنكره المتأخرون ، وقالوا : أما الذين ظلموا من أهل الإسلام فالله أعلم بذنوبهم ، لا ينبغي أن يصالح على شيء من معاصي الله ولا يركن إليه فيها ، وهذا صحيح ، لأنه لا ينبغي لأحد أن يصحب على الكفر ، وفعل ذلك كفر ، ولا على المعصية ، وفعل المعصية معصية . قال الله في الأول : - ودوا لو تدهن فيدهنون - 68 : 9 وسيأتي إن شاء الله ، وإن كانت في الكفار فهي عامة فيهم في العصاة ، وذلك على نحو من قوله : - وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا - 6 : 68 الآية . وقال حكيم :


على المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي



والصحبة لا تكون إلا عن مودة ، فإن كانت عن ضرورة وتقية فقد تقدم ذكرها في آية آل عمران على المعنى ، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار اهـ .

وقد أصاب المعنى اللغوي والمأثور دون فقه الآية .

وتبعه القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في تفسيره جامع أحكام القرآن فنقل كلامه بدون عزو إليه ولم يزد عليه .

( 5 ) وقال أبو علي الفضل بن الحسن الطوسي الشيعي المتوفى سنة 561 هـ في تفسيره مجمع البيان :

( اللغة ) الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له والإنصات والانصباب إليه بالمحبة ، نقيضه النفور . ( والمعنى ) ثم نهى الله - سبحانه - عن المداهنة في الدين والميل إلى الظالمين فقال : - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - أي ولا تميلوا إلى المشركين في شيء من دينكم ، عن ابن عباس ، وقيل : لا تداهنوا عن السدي وابن زيد ، وقيل : إن النهي عن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضاء بفعلهم أو إظهار موالاتهم .

فأما الدخول عليهم أو مخالطتهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز عن القاضي . وقريب منه ما روي عنهم أن الركون : المودة والنصيحة والطاعة . انتهى .

وهو لم يأت من عنده بشيء ، وإنما ذكر بعض الروايات المتقدمة وزاد عليها عبارة عن أستاذهم القاضي عبد الجبار المعتزلي ورواية آل البيت عليهم السلام .

( 6 ) وقال فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى سنة 606 هـ في تفسيره الكبير مفاتح الغيب :

[ ص: 146 ] الركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ، ونقيضه النفور عنه . . . . قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم ، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ، ومعنى قوله : - فتمسكم النار - أي إنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ، واعلم أن الله حكم بأن من ركن إلى الظلمة لابد وأن تمسه النار ، وإن كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه " اهـ .

قد تبع الإمام الرازي خصمه المعتزلي ( الزمخشري ) فأساء التقليد ، واختصر على خلاف عادته وما أفاد ، بل زاد عليه الاعتذار لطلاب المنافع ودرء المضار من الظالمين فأخرج مداخلتهم إياهم من جريمة الركون إليهم ، وهل يداخلهم أحد إلا لهذا ؟

( 7 ) وقال القاضي ناصر الدين عبد الله عمر البيضاوي الشافعي المتوفى سنة 685 هـ - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - فلا تميلوا إليهم أدنى ميل ، فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم - فتمسكم النار - بركونكم إليهم ، وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم كل الميل ، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه ، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه ، وخطاب الرسول ومن معه من المؤمنين بها ، والتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فهو ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه اهـ .

( 8 ) قال عبد الله بن أحمد النسفي الحنفي المتوفى سنة 701 هـ في تفسيره مدارك التنزيل : - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - 11 : 113 ولا تميلوا ، قال الشيخ - رحمه الله - : هذا خطاب لأتباع الكفرة ، أي : لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه - فتمسكم النار - وقيل : الركون إليهم الرضا بكفرهم ، وقال قتادة : ولا تلحقوا بالمشركين ، وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه ، فلما أفاق قيل له . فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم ! ! وعن الحسن : جعل الله الدين بين لاءين : - ولا تطغوا - - ولا تركنوا - . وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه " ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية : أيسقى شربة ماء ؟ فقال : لا . فقيل له : يموت ؟ قال : دعه يموت : - وما لكم من دون الله من أولياء - حال من قوله : - فتمسكم النار - [ ص: 147 ] أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة .

ومعناه : - وما لكم من دون الله من أولياء - يقدرون على منعكم من عذابه ، ولا يقدر على منعكم منه غيره - ثم لا تنصرون - ثم لا ينصركم هو ; لأنه حكم بتعذيبكم ، ومعنى " ثم " الاستبعاد ، أي النصرة من الله مستبعدة . انتهى . وفيه خطأ غير ما قلد به الزمخشري .

( 9 ) وقال أبو المسعود شيخ الإسلام مفتي دولة الروم العثمانية المتوفى سنة 983 هـ ، في تفسيره ( إرشاد العقل السليم ) : - ولا تركنوا - أي تميلوا أدنى ميل - إلى الذين ظلموا - أي إلى الذين وجد منهم ظلم في الجملة ، ومدار النهي هو الظلم ، والجمع باعتبار جمعية المخاطبين ، وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي ، من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم ، إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة ، وليس كذلك ، فتمسكم بسبب ذلك النار ، وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا ، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلا عظيما ، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ، ويلقي شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ، ويبتهج بالتزيى بزيهم ، ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية ، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية ، وهي في الحقيقة من الحبة طفيف ، ومن جناح البعوضة خفيف ، بمعزل عن أن تميل إليه القلوب - ضعف الطالب والمطلوب - 22 : 73 وخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ، فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو على غيره . انتهى . وفيه خطأ غير ما قلد به الزمخشري وتكلف .

( 10 ) وقال السيد محمود الألوسي مفتي الحنفية في بغداد - بعد أن كان شافعيا - في تفسيره روح المعاني :

- ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه - وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك ، كما يفسر - الذين ظلموا - بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا . قيل : ولإرادة ذلك لم يقل : إلى الظالمين ، ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم ، وترك التغيير عليهم مع القدرة ، والتزيي بزيهم ، وتعظيم ذكرهم . ومجالستهم من غير داع شرعي ، وكذا القيام لهم ونحو ذلك . ومدار النهي على الظلم ، والجمع باعتبار جمعية المخاطبين ، وقيل : إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا ، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس كذلك ، - فتمسكم - أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة [ ص: 148 ] في جواب النهي - النار - وهي نار جهنم ، وإلى التفسير الثاني - وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير - ذهب أكثر المفسرين ، قالوا : وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار ، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل ، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم ، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم ، ويتهيج بالتزيى بزيهم ، والمشاركة لهم في غيهم ، ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية ، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية ، غافلا عن حقيقة ذلك ، ذاهلا عن منتهى ما هنالك ، وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم ، بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان : إني أخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم ؟ فقال له : لا ، أنت منهم ، والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم اهـ .

من تأمل أقوال من بعد الزمخشري في تفسير الآية يرى أنهم كلهم قلدوه فيما فسر به الركون ، وهو غلط منه كما حققته في أول تفسير الآية ، وأنه هو مشتق من الركون وهو الجانب القوي من البناء ومن كل شيء ، فمعنى الركون إليهم الاستناد إليهم والاعتماد على ولايتهم ونصرهم إلخ . وفي تفسير - الذين ظلموا - بالذين وقع منهم ظلم ما هو غلط أيضا ، وإنما هو في الكلام على الأقوام كالوصف باسم الفاعل ، فقوله - تعالى - : - إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - 2 : 6 معناه : جماعة الكافرين الراسخين في الكفر لا من وقع منهم كفر ما إلى آخر ما تقدم .

( 11 ) أختم هذه النقول بما أورده السيد محمد صديق حسن خان نائب ملك بهوبال ( الهند ) المتوفى سنة 1307 هـ وفي تفسيره ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) الذي أودعه تفسير أستاذه القاضي الشوكاني المسمى ( بفتح القدير ) وزاد عليه ، فكان ما أورده عنه مغنيا عن أصله .

فقد اتفق المفسران على تخطئة الزمخشري ومن تبعه في تفسير الركون بالميل اليسير ، وأوردا بعض ما قاله رواة التفسير واللغة في معناه مخالفا له ، مما نقلناه وزنا عليه ، وانفردنا بتحقيق معناه دونهم ودونهما ، ثم انفردا بالبحث الآتى بنصه قال :

" وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية ، هل خاصة بالمشركين أو عامة ؟ فقيل : خاصة ، وأن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وأنهم المرادون بـ - الذين ظلموا - وقد روي ذلك عن ابن عباس ، وقيل : إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، وهذا هو الظاهر من الآية ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

[ ص: 149 ] ( فإن قلت ) : وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر ، الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة ، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء ، حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح : " أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة " وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة ، وما لم يظهر منهم الكفر البواح ، ولم يأمروا بمعصية الله ، وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه ، وفعلوا أعظم أنواعه ، مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح ، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله ، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم ، والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله ، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد ، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا ، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم ، وإقامة الحدود على من وجبت عليه .

" وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن من معصية الله ، ولابد في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لابد منه ، ولا محيص عن هذا الذي ذكرنا من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به ، بل قد ورد به الكتاب العزيز : - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم - 4 : 59 بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا ، كما في بعض الأحاديث الصحيحة " أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم " ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال : " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون ، فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون ، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضي ذلك شرعا كالطاعة أو التقية ، ومخافة الضرر منهم أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة ، أو إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضى بأفعالهم اهـ .

( قلت ) : أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها ، حيث لم تكن في معصية الله ، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها ، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها ، ولا شك في هذا ولا ريب ، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم ، مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها ، إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه ، فضلا عن أن يقال جائز له .

وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة ، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعا بين الأدلة ، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة ، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، مع كراهة ما هم عليه من الظلم [ ص: 150 ] وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم ، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة ، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد ، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، ولا يخفى على الله خافية .

وبالجملة : فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع ، فإن زاغ عن ذلك " فعلى نفسها براقش تجني " ، ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به . يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين ، اجعلنا من عبادك الصالحين ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، الذين لا يخافون فيك لومة لائم ، وقونا على ذلك ، ويسره لنا ، وأعنا عليه اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية