الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          تحقيق مسألة طاعة الأئمة والأمراء : إن هذا البحث الذي فتح بابه ودخله هذان المجددان في تفسيريهما ( فتح القدير ، وفتح البيان ) كان استدراكا ضروريا لما فسر به الآية جمهور من قبلهما فاقتصروا وقصروا ، لولاه لما كان إليه حاجة في فهم الآية ، على أنهما على سبقهما لم يسلما من تقصير ، ولم يأتيا بكل ما يحتاج إليه البحث من تحرير ، وأوردا الأحاديث بالمعنى بدون تخريج ولا تدقيق .

                          أهم ما في البحث من حاجة إلى التحرير ، مسألة طاعة الملوك والسلاطين والأمراء الظالمين وإن تفاقم ظلمهم فسلبوا الأموال ، وضربوا ظهور الرجال ، ما داموا لا يظهرون الكفر البواح ( هو بالفتح : الظاهر المكشوف ) وقد اشتهر أن هذا مذهب أهل السنة ، وأن وجوب الخروج عليهم مذهب الزيدية .

                          والصواب أن المسألة فيها نظر ، فإطلاق القول فيها يحتاج إلى تقييد ، وإجماله لا ينجلي إلا ببيان وتفصيل ، وقد سبق لنا تحريره في كتاب ( الخلافة 0 أو الإمامة العظمى ) وفي هذا التفسير .

                          وخلاصة القول الحق أنه لا تعارض بين وجوب طاعة الأئمة والأمراء فيما لا معصية فيه لله تعالى من المعروف ، وبين النهي عن الركون إلى الظالمين ، وحظر ما دون الركون إليهم مما قاله المفسرون وغيرهم ، وما في معنى هذا النهي من آيات الذكر الحكيم في تقبيح الظلم ، وبيان كونه سببا لهلاك الأمم في الدنيا وعذابها في الآخرة ، وكذا الآيات الدالة على سلطة الأمة عليهم .

                          وما ورد من الأحاديث في طاعتهم يقابله ما ورد فيها من وجوب الأخذ على أيدي الظالمين عامة ، وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ، ووجوب تغيير المنكر باليد أولا فإن لم يستطع فباللسان ، وكون إنكاره بالقلب عند عدم الاستطاعة لما قبله أضعف الإيمان ، [ ص: 151 ] ومنه عدم الميل إليهم ولو يسيرا ، وهو الذي فهمه من ذكرنا من المفسرين من النهي عن الركون ، فإنكارهم له حق في نفسه ، وإنما أخطأ من أخطأ في تفسير الركون به .

                          وحسبنا هنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وغيرهم في تفسير قوله - تعالى - : - عليكم أنفسكم - 5 : 105 الآية ، ففي المسند من طريق قيس ( أبي حازم ) قال : قام أبو بكر - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : - ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - حتى أتى على آخر الآية - ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه ، ألا وإني سمعت رسول الله يقول : " إن الناس " . . . وفي رواية أخرى عنه أنه خطب فقال : " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله : - ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه " ، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحميدي في مسانيدهم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم .

                          وفي معنى هذا الحديث ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 5 : 78 قال : فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا " وفي رواية أبي داود قال : قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم الله كما لعنهم " اهـ .

                          أطره على الحق وغيره : عطفه وثناه ، وقصره عليه حبسه وأمسكه عليه حتى لا يتعداه ( وبابهما ضرب ) .

                          والأصل المجمع عليه أن الطاعة الواجبة في الشرع هي لأولي الأمر من الأئمة ( الخلفاء ) ونوابهم من السلاطين وأمراء الجيوش والولاة ، وكلها مقيدة بالمعروف من الواجب والمندوب والمباح ، دون المحظور . وأما طاعة المتغلبين فهي للضرورة ، وتقدر بقدرها بحسب المصلحة ، ويجب إزالتها عند الإمكان من غير فتنة ترجح مفسدتها على المصلحة ، فخروج الإمام الحسين السبط - عليه السلام - على يزيد الظالم الفاسق كان حقا موافقا للشرع ، ولكنه ما أعد له عدته الكافية ، بل خذله من عاهدوه على نصره ، وقد امتنع أبو حنيفة [ ص: 152 ] من الإجابة إلى ولاية القضاء ، وفر منها الشافعي ، وكان من أمر مالك ما كان حتى روي أنه ترك صلاة الجمعة مع ولاتهم .

                          قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتابه ( مراتب الإجماع ) : واتفقوا أن الإمام الواجب إمامته ، فإن طاعته في كل ما أمر ما لم يكن معصية فرض ، والقتال دونه فرض ، وخدمته فيما أمر به واجبة ، وأحكامه وأحكام من ولى نافذة ، واختلفوا فيما بين مدن الطرفين من إمام قرشي غير عدل أو متغلب من قريش أو مبتدع إلخ . وأورد الشوكاني في الباب من " نيل الأوطار " حديث عبادة بن الصامت : " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " ، متفق عليه . وقال الشوكاني في شرحه ما نصه :

                          قوله : " عندكم فيه من الله برهان " أي : نص آية ، أو خبر صريح لا يحتمل التأويل .

                          ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل ، قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية ، ومعنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم . انتهى .

                          " قال في الفتح : وقال غيره : إذا كانت المنازعة في الولاية ، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر ، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية ، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف ، ومحل ذلك إذا كان قادرا ، ونقل ابن التين عن الداودي قال : الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر ، وعن بعضهم : لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء ، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه ، والصحيح المنع ، إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه ، قال ابن بطال : إن حديث ابن عباس المذكور في أول الباب حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار .

                          " قال في الفتح : وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ، فلا يجوز طاعته في ذلك ، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث . انتهى .

                          [ ص: 153 ] " وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال ، بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقا ، وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة ، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور ، فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم ، وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم ، ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية ، ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب ، حتى حكموا بأن الحسين السبط - رضي الله عنه وأرضاه - باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله ، فيالله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ، ويتصدع من سماعها كل جلمود . انتهى ما في نيل الأوطار .

                          هذا وإن حديث ابن عباس الذي عزاه إلى أول الباب هو قوله - صلى الله عليه وسلم - " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية " هو متفق عليه . وهذا وما في معناه من أحاديث لزوم الجماعة وإمامهم الذي بايعوه واجتمعت كلمتهم عليه ، أخص مما تقدم الكلام فيه عن العلماء في أمراء الجور ، وقد قالوا في معنى موته ميتة جاهلية : إنه يموت وليس في عنقه بيعة لإمام يلتزمها مع جماعة المؤمنين ، كما صرح به في بعض الروايات ، فيكون كما كان عليه أهل الجاهلية من الفوضى لا أنه يكون كافرا اهـ .

                          وكل هذا في خروج بعض الأفراد أو الفئات على إمام المسلمين وجماعتهم بشق عصا الطاعة ، وتفريق شمل الجماعة ، وهو الفساد في الأرض ، وإن كان الإمام ظالما ، فإن كف الإمام عن الظلم ولو بالعزل فهو حق أهل الحل والعقد الذين هم محل ثقة الأمة ، الذين يمثلون الرأي العام فيها ، الذين عناهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في خطبته الأولى عقب مبايعته : " فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية