صفحة جزء
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

[ ص: 154 ] هذا أمر بأعظم العبادات وبأعظم الأخلاق ، اللذين يستعان بهما على ما قبلهما من الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى أولي الظلم ، ولذلك عطفا عليهما .

- وأقم الصلاة طرفي النهار - خص إقامة الصلاة بالذكر في هذه الوصية العامة المجملة ، لأنها رأس العبادات المغذية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال ، أي : أدها على الوجه القويم وأدمها في طرفي النهار من كل يوم ، طرف الشيء والزمن الناحية والطائفة منه ونهايته ، فطرفا النهار هنا البكرة والأصيل أو الغدو والعشي ، وقد أمرنا - تعالى - في التنزيل بالذكر والتسبيح فيهما : - وزلفا من الليل - أي : وفي زلف من الليل ، جمع زلفة ، وهي بالضم كقرب جمع قربة لفظا ومعنى ، وتطلق كما في معاجم اللغة على الطائفة من أول الليل لقربها من النهار ، وقالوا : الزلف ساعات الليل الآخذة من النهار ، وساعات النهار الآخذة من الليل ، روي عن ابن عباس أن صلاة طرفي النهار المغرب والغداة ( أي الفجر ) وزلف الليل العتمة ( أي العشاء ) ، وعن الحسن أن صلاة طرفي النهار الفجر والعصر ، وقال في زلف الليل هما زلفتان : صلاة المغرب ، وصلاة العشاء ، وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما زلفتا الليل " وهذا أقرب إلى اللغة مما قبله ، فإن صح الحديث فلا معدل عنه ، ولكنه من مراسيل الحسن فيبحث عمن رفعه ، وأدخل بعض المفسرين صلاة الظهر في طرفي النهار ; إذ يصح أن يسمى وقتها طرفا بمعنى أنه طائفة وناحية من النهار يفصلها من غيرها زوال الشمس ، ولكنه طرف ثالث ، واللفظ هنا مثنى ، وفي سورة طه : - وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى - 20 : 130 فجمع الأطراف بعد ذكر الطرفين الأخيرين بالمعنى ، وهما وقتا صلاتي الفجر والعصر .

والأظهر في أمثال هذه الآيات أن ذكر الله - تعالى - وتسبيحه المطلق فيها عام ، فيدخل فيه الصلاة وغيرها ، والآية الصريحة في أوقات الصلوات الخمس قوله - تعالى - : - فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون - 30 : 17 و 148 تمسون تدخلون في المساء وهو ما بين الظهر إلى المغرب ، نقله في المصباح عن ابن القوطية ، ذكر هو وغيره مثل هذا في تفسير العشي ، وهو غلط سببه اشتراك الوقتين باتصال آخر المساء بأول العشي ، وهو أول الليل حيث يختلط النور بالظلام ، فصلاة المغرب العشاء الأولى ، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق ، وهو آخر أثر لنور النهار ، وفي معنى هذا قوله - تعالى - : - أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر - 17 : 78 الآية ، فدلوك الشمس زوالها ، أي أقمها لأول وقتها هذا وفيه صلاة الظهر ، منتهيا إلى غسق الليل وهو ابتداء ظلمته ويدخل فيه صلاة العصر والعشائين ، وأقم صلاة الفجر .

[ ص: 155 ] - إن الحسنات يذهبن السيئات - الجملة تعليل للأمر قبلها مبين لحكمته وفائدته .

ومعناها : أن للأعمال الحسنة من تزكية النفس وإصلاحها ، ما يمحو منها تأثير الأعمال السيئة وإفسادها ، روي عن ابن مسعود وابن عباس تفسير الحسنات فيها بالصلوات الخمس ، زاد ابن عباس : - والباقيات الصالحات - ولا غرو ، فالصلاة أعظم الحسنات ، وأكبر العبادات المكفرة للسيئات ، ولكن لفظ الحسنات عام يشمل جميع الأعمال الصالحات حتى التروك فإنها عمل نفسي ، ومنه : - إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما - 4 : 31 وفي الحديث : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " - ذلك ذكرى للذاكرين - أي : إن فيما ذكر من الوصايا من الأمر بالاستقامة إلى هنا لموعظة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه .

وقد فسروا السيئات هنا بالصغائر ، وأيدوه بما روي في سبب نزول الآية عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت عليه : - وأقم الصلاة طرفي النهار - إلخ . فقال : يا رسول الله ألي هذه ؟ قال : " هي لمن عمل بها من أمتي " رواه الجماعة إلا أبا داود ، وأشهر رواة التفسير المأثور ، وفي رواية لغير البخاري ، وأبو داود منهم - أن الرجل قال للنبي : إنني وجدت امرأة في البستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها ، قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك ، فافعل بي ما شئت ، فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه رسول الله بصره فقال : " ردوه علي " فردوه فقرأ عليه : - وأقم الصلاة طرفي النهار - الآية . فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة ؟ قال : " بل للناس كافة " وليس في هذه الرواية أن الآية نزلت في هذه النازلة ، وهنالك روايات أخرى عن معاذ بن جبل وابن عباس في معنى حديث ابن مسعود في الجملة أو مغزاه ، وقد سمي الرجل في بعضها بأبي اليسر ، ومنها حديث أبي أمامة عند أحمد ومسلم وأبي داود وغيرهم : أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله أقم في حد الله - مرة أو مرتين - فأعرض عنه ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ منها قال : " أين الرجل " ؟ قال : أنا ذا ، قال : " أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا " ؟ قال : نعم ، قال : " فإنك خرجت من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد " والمراد : خرجت من خطيئتك التي طلبت تكفيرها بإقامة الحد وهي لا حد فيها ، وإنما يجب في تكفيرها التوبة والعمل الصالح الذي يزكي النفس ، ومن أعظمها الوضوء التام وإقامة الصلاة ، وقد تاب الرجل توبة نصوحا ؛ بدليل طلبه إقامة الحد عليه ، والتوبة مع العمل الصالح تكفر الصغائر [ ص: 156 ] والكبائر إلا حقوق العباد ، فإنه يجب أداؤها أو استحلال أهلها منها إن أمكن . وذهب بعض العلماء إلى أن تكفير الحسنات للصغائر لا يشترط فيه التوبة إذا اجتنبت الكبائر ، ويقول الغزالي : إن كل نوع من الحسنات يكفر ما هو ضده من السيئات ، كتكفير البخل بالإنفاق ، والإساءة إلى الناس بالإحسان إلخ .

والآيات في تكفير السوء والسيئات المطلقة والمعينة كثيرة ، ومن الثاني كفارات الظهار ومحرمات الإحرام والحنث بالأيمان ، وأمثال هذه لا يشترط فيها التوبة ، فذنوبها عارضة ليس من شهوات النفس تكرارها كالفواحش والمنكرات المدنسة للنفس باتباع الهوى والشهوات الباعثة على الإصرار ، فهذه لا يطهرها منها ويزكيها إلا التوبة ، وإنما تتحقق التوبة بالندم على فعل الذنب المقتضي لتركه ، وإزالة أثره من النفس بالعمل الصالح ، فبجملة هذه المعاني الثلاثة يحصل الرجوع إلى الله بعد الإعراض والبعد عنه بعصيانه ، وشرح الغزالي هذا المعنى للتوبة بقوله : إنها مركبة من : علم ، وحال ، وعمل ، كل منها سبب لما بعده ، فالعلم بحرمة الذنب وكونه سببا لسخط الله - تعالى - وعقابه يوجب الحال ، أي يحدثه ، وهو الخوف وألم النفس ، وهذا يوجب العمل وهو ترك الذنب وتكفيره بالعمل الصالح انتهى بالمعنى موجزا .

وقد تكلمنا على التوبة في مواضع من هذا التفسير ، منها الكلام على توبة آدم في سورتي البقرة والأعراف ، ومنها سورة النساء قوله - تعالى - : - إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب - 4 : 17 إلى آخر الآيتين ، ومنها في سورة الأنعام : - وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم 6 : 54 وسيأتي في معناه من سورة النحل : - ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 16 : 119 ومثله في سورة طه : - وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى - 20 : 82 وناهيك بما تقدم في أواخر التوبة من آيات التوبة ، ولا سيما توبة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ففيها أكبر العبر للمؤمنين المسلمين .

- واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين - ( 3 ) أي ووطن نفسك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيت عنه في هذه الوصايا حتى الصلاة ، كما قال : - وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها - 20 : 132 واستعن بالصبر والصلاة على سائر أعباء الدعوة إلى الإسلام [ ص: 157 ] والإصلاح ، وانتظار عاقبتها من النصر والفلاح ، فإن هذا من الإحسان الذي لا جزاء له إلا الإحسان ، - فإن الله لا يضيع أجر المحسنين - في أعمالهم في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ، ولكن للجزاء في أمور الأمم آجالا وأقدارا يجب الصبر في انتظارها ، وعدم استعجالها قبل أوانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية