صفحة جزء
بيدك الخير قال الأستاذ الإمام : قدر المفسر ( الجلال ) هنا كلمة " والشر " هربا من المعتزلة على أنه ليس في العبارة نفي لكون الشر بيده كما أنه ليس فيها إثبات له فلا معنى لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله : إنك على كل شيء قدير أي في إثبات أن كل شيء بيده لا يعجزه شيء ، والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصا وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته - صلى الله عليه وسلم - أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا أو عاما وهو حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المنكرين فإنه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوة والاستهانة بدعوة الحق إلا فقر الداعي وضعف من اتبعه من المسلمين وقلتهم ، فأمره الله - تعالى - أن يلجأ هو ومن اتبعه إلى مالك الملك والمتصرف التصرف المطلق في الإعزاز والإذلال ، وذكرهم في هذا المقام بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما وعدهم ، وأن يعزهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [ 28 : 5 ] على هذا الأصل أمر الله نبيه بأن يدعوه - والمؤمنون تبع له - بهذه الكلمات ويلجئوا إليه بهذه الرغبة ، فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط ، وأنه بيده وحده . وأقول : إنه لا يسند إلى يده - تعالى - أو يديه إلا النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة ، فلا يقال : إن الشر بيد الله - تعالى - ، على أن جميع ما خلقه الله - تعالى - ودبره هو خير في نفسه ، والشر أمر عارض من الأمور الإضافية ; فلا توجد حقيقة هي شر في ذاتها وإنما يطلق لفظ الشر على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك ، ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم ، وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري ، ومن غير الغالب أن تقوض الريح لهم بناء أو يجرف السيل لهم رزقا ، وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما ، ومن الخير والنعم ما قدرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيئ ، فإن ذلك أعظم مرب للناس وعون لهم على الارتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة ، ومن تدبر سورة الرحمن فقه ما نقول . وللإمام ابن القيم كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا .

قال في كتاب ( شرح منازل السائرين ) ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه : [ ص: 225 ] " إن الشر كله يرجع إلى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه ، مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه ، وحركتها من حيث هي حركة خير ، وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا . فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه ; فإنه - سبحانه - لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك . بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده ، بل الواقع منحصر في ذلك ، فلا يمكن في جناب الحق - جل جلاله - أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما . هذا من أبين المحال ، فإنه - سبحانه - بيده الخير والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله . فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا .

" فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة ؟ قلت : هو من الجهة ليس بشر ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير ، فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد ، فهذه هي الخيرات وأسبابها ، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله ، وإعداده خير وهو إليه أيضا . فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنما إليه ضده فإن قلت : فهلا أمده إذا وجده ؟ قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه - سبحانه - يوجده ويمده ، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته ، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده .

" فإن قلت : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فالجواب : هذا سؤال فاسد يظن مورده أن تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل ، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت ، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق [ ص: 226 ] من تفاوت ( قال - رحمه الله تعالى - ) : فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل :


إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع



التالي السابق


الخدمات العلمية