صفحة جزء
وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أي أو كانت امرأة تورث كلالة أي حال كون كل منهما كلالة ، أي ذا كلالة ، أو المعنى : وإن كان رجل مورث كلالة أي ذا كلالة ، وهو من ليس له والد ولا ولد ، وعليه أكثر الصحابة . واللفظ مصدر كل يكل ، بمعنى الكلال ، وهو الإعياء ، ثم استعمل للقرابة البعيدة غير قرابة الولد ، والوالد لضعفها بالنسبة [ ص: 346 ] إلى قرابة الأصول ، والفروع . وقال بعضهم : كلت الرحم بين فلان ، وفلان إذا تباعدت القرابة ، وحمل فلان على فلان ، ثم كل عنه إذا تباعد ، ومنه سميت القرابة البعيدة كلالة ، ذكره الرازي وجها ثانيا . وذكر وجها ثالثا هو أن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ؟ والكل لإحاطته بما يدخل فيه ، ويقال : تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب . قال : إذا عرفت هذا ، فنقول من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة ; لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان ، وكالإكليل المحيط برأسه ، أما قرابة الولادة فليست كذلك ، فإن فيها يتفرع البعض عن البعض ، ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد . ولهذا قال الشاعر :


نسب تتابع كابرا عن كابر كالرمح أنبوبا على أنبوب



فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة ، وهي كالإخوة ، والأخوات ، والأعمام ، والعمات ، فإنما يحصل لنسبهم اتصال ، وإحاطة بالمنسوب إليه اهـ . ثم بين أن الكلالة يوصف بها الميت الموروث ، ويراد بها من يرثه غير أولاده ، ويوصف بها الوارث ، ويراد به من سوى الأولاد ، والوالدين ، ورجح هذا بحديث يدل عليه ، وذكر كغيره أن لفظ الكلالة مصدر يستوي فيه القليل والكثير ، ولا يجمع ، ولا يثنى ، وقال بعضهم : إنه صفة كالهجاجة للأحمق .

وعن عمر أنه كان يقول : الكلالة من سوى الولد من الوارثين . وروي أنه لما طعن قال : كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له ، وأنا أستحي أن أخالف أبا بكر ، الكلالة من عدا الوالد والولد . رواهما عنه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي ، وغيرهم . والرواية الثالثة عنه التوقف ، وكان يقول : ثلاث لأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة ، والكلالة ، والربا . رواه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأبو الشيخ في الفرائض ، والحاكم ، والبيهقي ، وغيرهم ، وروى ابن راهويه ، وابن مردويه ، عن سعيد بن المسيب بسند صحيح أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يورث الكلالة ؟ فقال : أو ليس الله قد بين ذلك ؟ ثم قرأ : وإن كان رجل يورث كلالة إلى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم . فأنزل الله : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 : 176 ] إلى آخر الآية فكأن عمر لم يفهم ، فقال لحفصة : إذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيب نفس فاسأليه عنها ، فسألته ، فقال : أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها أبدا فكان يقول : ما أراني اعلمها أبدا ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال .وروى عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، عن سعيد أيضا أن عمر كتب أمر الجد ، والكلالة في كتف ( أي عظم كتف ) ، ثم طفق يستخير [ ص: 347 ] ربه فقال : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه ، فلما طعن دعا بالكتف ، فمحاها ثم قال : كنت كتبت كتابا في الجد ، والكلالة ، وكنت أستخير الله فيه ، وإني رأيت أن أردكم على ما كنتم عليه . فلم يدروا ما كان في الكتف . وهذه الروايات غريبة في معناها . فالأمر واضح لم يشتبه فيه من دون عمر ، ولا من في طبقته ، ولله في البشر شئون ، وقلما تقرأ ترجمة رجل عظيم إلا وتجد فيها أنه انفرد بشيء غريب في بابه .

إن الله - تعالى - أنزل آيتين في الكلالة : الآية التي نفسرها ، والآية التي في آخر هذه السورة ، فبين في هذه الآية ما يرثه الإخوة للأم من الكلالة فقط للحاجة إلى ذلك وعدم الحاجة عند نزول الآية إلى بيان ما يأخذه إخوة العصب ، وكأنه وقع بعد ذلك إرث كلالة فيه إخوة عصب ، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنزلت الآية الأخرى التي في آخر السورة التي جعلت للأخت الواحدة النصف إذا انفردت ، وللأختين فأكثر الثلثين ، وللأخ فأكثر كل التركة وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 : 176 ] فأجمع الصحابة على أن قوله - تعالى - هنا : وله أخ أو أخت يعني به الأخ ، أو الأخت من الأم فقط ; لأن الأخوين من العصب قد بين حكمهما في الآية الأخرى ; ولأن قوله : فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يدل على أنهم إنما يأخذون فرض الأم ، فإنه إما السدس ، وإما الثلث ، واستدل المفسرون على ذلك بقراءة أبي بزيادة " من الأم " ، وسعد بن أبي وقاص بزيادة " من أم " وقالوا : إن القراءة الشاذة أي غير المتواترة تخصص ; لأن حكمها حكم أحاديث الآحاد . وعندي أن هذا ليس قراءة ، وإنما هو تفسير سمعه بعض الناس منهما فظنوا أن كلمة : " من الأم " قراءة ، وأنهما يعدانها من القرآن . وأرى أن كل ما روي من الزيادة على القرآن المتواتر في قراءة بعض الصحابة قد ذكر أنه تفسير ، فإن لم يكن الصحابي هو الذي قصد التفسير بذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تلقى ذلك الصحابي عنه هو الذي قصد التفسير فظن الصحابي أنه يريد القرآن . والدليل على ذلك القراءة المتواترة عنه - صلى الله عليه وسلم - الخالية من هذه الزيادة ، ولا دخل هاهنا للفظ الراوي في الترجيح لأنهم يروون الأحاديث بالمعنى .

والحاصل أن الأخ من الأم يأخذ في الكلالة السدس ، وكذلك الأخت لا فرق فيه بين الذكر والأنثى ; لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها . وإذا كانوا متعددين أخذوا الثلث وكانوا فيه سواء لا فرق بين ذكرهم ، وأنثاهم لما ذكرنا من العلة ، وذلك من بعد وصية يوصى بها أو دين كما تقدم في نظيره ، وفيه قراءة " يوصى " بفتح الصاد ، وكسرها كما تقدم .

وأما الباقي بعد فرض هؤلاء كغيرهم على القاعدة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 348 ] بقوله : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر أي من عصبة الميت ، رواه أحمد ، والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس ، وإنما لم يذكر هذا في القرآن لأن المخاطبين به في عصر التنزيل كانوا يعطون جميع التركة للرجال من عصبتهم دون النساء ، والصغار ، ففرض - سبحانه - للنساء ما فرضه فكن شريكات للرجال ، وجعل الصغار والكبار في الإرث سواء ، وما سكت عنه فلم يبينه بالنص ، ولا بالفحوى فهو مفوض إليهم يجرون فيه على عرفهم في تقديم الأقرب من العصبات إذ لا ضرر فيه إلا أن يسن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة فيكون اتباعها مقدما على عرفهم كما هو بديهي .

ثم قال : غير مضار أي ذلك الحق في الورثة يكون من بعد وصية صحيحة يوصي بها الميت في حياته غير مضار بها ورثته ، وحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية الجائزة بثلث التركة ، وقال : والثلث كثير كما في حديث سعد المتفق عليه ، فما زاد على الثلث فهو ضرار لا يصح ، ولا ينفذ ، وعن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أن الضرار في الوصية من الكبائر أي إذا قصده الموصي ، وأيضا من بعد دين صحيح لم يعقده الميت في حياته ، أو يقر به في حال صحته ، لأجل مضارة الورثة . والحال أنه لم يأخذ ممن أقر له به شيئا فهذا معصية أيضا ، وكثيرا ما يجترحها المبغضون للوارثين لهم ، ولاسيما إذا كانوا كلالة ; ولذلك جاء هذا القيد في وصية إرث الكلالة دون ما قبله ; لأن القصد إلى مضارة الوالدين ، أو الأولاد وكذا الأزواج نادر جدا ، فكأنه غير موجود .

وصية من الله أي يوصيكم بذلك ، وصية منه - عز وجل - فهي جديرة بالإذعان لها ، والعمل بموجبها والله عليم بمصالحكم ، ومنافعكم وبنيات الموصين منكم حليم لا يسمح لكم بأن تعجلوا بعقوبة من تستاءون منه ، ومضارته بالوصية ، كما أنه لم يسمح لكم بحرمان النساء ، والأطفال من الإرث ، وهو لا يعجل بالعقاب في أحكامه ولا في الجزاء على مخالفتها عسى أن يتوب المخالف .

التالي السابق


الخدمات العلمية