صفحة جزء
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا .

روى ابن المنذر عن أبي مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( 39 : 53 ) ، قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ؟ فسكت ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله ؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به وروى ابن جرير نحوه عن ابن عمر ، وروى ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري في رجل شكا ابن أخيه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا ينتهي عن الحرام ، وذكر الفخر الرازي أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة ـ رضي الله عنه ـ إذ أراد أن يسلم وخاف ألا يقبل إسلامه ، وذكر في ذلك محاورة ومراجعة عزاها إلى ابن عباس ، وهي لا تصح فلا حاجة إلى إيرادها .

الأستاذ الإمام : قالوا في سبب نزول هذه الآية قصة وحشي ، وأنه ندم على قتله لما أخلفه مولاه ما وعده من عتقه ، وراجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إسلامه ، فكأنهم يثبتون أن الله جلت عظمته كان يداعب وحشيا وأصحابه ويستميلهم بآية بعد آية ، ولا حاجة إلى هذا كله ، فالكلام ملتئم بعضه مع بعض ، فهو بعد ما ذكر من شأن اليهود وأن عمدتهم [ ص: 120 ] في تكذيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريف أحبارهم للكتاب ، واتباعهم لهم في أمر الدين كما قال في آية أخرى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ( 9 : 31 ) ، وورد في تفسيرها المرفوع أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم من غير رجوع إلى أصل الكتاب ، فهذه الآية تشير إلى أنهم وقعوا في الشرك المشار إليه في الآية الأخرى ; إذ الشرك بالله يتحقق باعتماد الإنسان على غير الله مع الله في طلب النجاة من رزايا الدنيا ومصائبها ، أو من العذاب في الآخرة ، كما يتحقق بالأخذ بقول بعض الناس في التشريع كالعبادات ، والعقائد ، والحلال والحرام ، وإثبات الشرك لليهود هنا وفي تلك الآية لا ينافي تسميتهم أهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء ، فإنه قال في الآية السابقة : فلا يؤمنون إلا قليلا أي : إيمانا لا يعتد به ; إذ لا يقي صاحبه من الشرك .

أقول : قد بينا في مواضع كثيرة من التفسير حقيقة الشرك في الألوهية وهو : الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى ، وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور ، والشرك في الربوبية هو : الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي ، وهذا النوع من الشرك هو الذي أشار الأستاذ الإمام إلى تفسير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لآية التوبة به ، وهي قوله تعالى في أهل الكتاب كلهم : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 9 : 31 ) ، فسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام كما ذكرنا غير مرة ، فهذا إثبات لطروء الشرك على أهل الكتاب ، وإن لم يجعل ذلك عنوانا لهم في القرآن ؛ لأنه ليس من أصل دينهم وليميزهم عن مشركي الوثنيين ، وبينا أيضا أن الشرك في الألوهية والربوبية قد سرى منذ قرون كثيرة إلى بعض المسلمين حتى عرفت طوائف منهم بنبذ الإسلام ألبتة كطوائف الباطنية ( راجع مباحث الشرك في ص 57 ، 68 و 354 - 360 من جزء التفسير الثاني وفي ص 24 ، 45 ، 325 ، 347 من جزئه الثالث ، 82 من جزئه الخامس وفي غير هذه المواضع من التفسير والمنار ) وبإثبات الشرك لأهل الكتاب تظهر مناسبة وضع هذه الآية بين هذه الآيات في محاجتهم ودعوتهم إلى الإسلام ، كأنه يقول : لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء ، وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال .

أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك ، فهي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم ، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم ; لأنه عبارة عن رفعهم لأفراد منهم أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون [ ص: 121 ] لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه ، وأن إرضاءها وطاعتها هو عين طاعة الله تعالى ، أو شعبة منها لذاتها ، فهذه الخلة الدنيئة هي التي كانت سبب استبداد رؤساء الدين والدنيا بالأقوام والأمم واستعبادهم إياهم وتصرفهم في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم ومنافعهم تصرف السيد الملك القاهر بالعبد الذليل الحقير ، وناهيك بما كان لذلك من الأخلاق السافلة والرذائل الفاشية من الذل والمهانة والدناءة والتملق والكذب والنفاق وغير ذلك .

والتوحيد الذي يناقض الشرك هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر ، وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية ، وجعله حرا كريما عزيزا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات ، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات ، فلسننه الحكيمة يخضع ، ولشريعته العادلة المنزلة يتبع ، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه ، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه ، وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه ، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة جنسه ، لا تقديسا لسلطة ذاتية لهم ، ولا ذلا واستخذاء لأشخاصهم ، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم ، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقومهم ، كما قال الخليفة الأول في خطبته الأولى بعد نصب الأمة له ومبايعتها إياه : " وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني " ، فهكذا يجب أن يكون شأن الموحدين مع حكامهم ، وهكذا يكونون سعداء في دنياهم بالتوحيد ، كما يكونون أشقياء بالشرك الجلي أو الخفي .

وأما سعادة الآخرة وشقاؤها فهو أشد وأبقى ، والمدار فيهما على التوحيد والشرك أيضا ، إن روح الموحدين تكون راقية عالية لا تهبط بها الذنوب العارضة إلى الحضيض الذي تهوي فيه أرواح المشركين ، فمهما عمل المشرك من الصالحات تبقى روحه سافلة مظلمة بالذل والعبودية والخضوع لغير الله تعالى ، فلا ترتقي بعملها إلى المستوى الذي تنعم فيه أرواح الموحدين العالية في أجسادهم الشريفة ، ومهما أذنب الموحدون ، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم ، وظلمتها لا تعم قلوبهم ; لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم ، ولا يطول الأمد وهم في غفلتهم عن ربهم ، بل هم كما قال تعالى : إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ( 7 : 201 ) ، يسرعون إلى التوبة ، وإتباع الحسنة السيئة : إن الحسنات يذهبن السيئات ( 11 : 114 ) ، فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران ، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة ; ولذلك قال تعالى :

ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أي : يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين ، [ ص: 122 ] وإنما مشيئته موافقة لحكمته ، وجارية على مقتضى سننه ، كما بينا ذلك في مواضع كثيرة من التفسير ( تراجع الفهارس عند مادة مشيئة ) وقد أشرنا إليها آنفا بقولنا : ومهما أذنب الموحدون إلخ ، وهو بيان لما يشاء غفرانه ، ولسننه في ذلك ، وأما سننه تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة ، وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل أثرها السيئ من النفس حتى يترتب عليه أثره السيئ في الدنيا ، ثم في الآخرة ، فإن العقاب على الذنوب عبارة عن ترتب آثارها في النفس عليها كما تؤثر الحرارة في الزئبق في الأنبوبة فيتمدد ويرتفع ، وتؤثر فيه البرودة فيتقلص وينخفض ، فهذا مثال سنته تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والسيئة في نفوس البشر وجزائهم عليها كما بينا ذلك مرارا في التفسير وغيره ( راجع مادة ذنب وعقاب وجزاء في فهارس التفسير والمنار ) .

وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين ، فلم يأخذوه بجملته ويفسروا بعضه ببعض كالجمع بين المشيئة والحكمة والنظام ، بل نظروا في كل جملة على حدتها ، وحاولوا حملها على مقالاتهم كالمرجئة والمعتزلة والخوارج وغيرهم ، فهذا يقول : إن الشرك وغير الشرك سواء في كونهما لا يغفران إلا بعد التوبة ، وهذا يقول : إنها دالة على عدم وجوب العقاب على الذنوب وجواز غفرانها كلها ما اجتنب الشرك ، وذاك يقول : إنها تكون على هذا مغرية بالمعاصي مجرئة عليها ، والآية فوق ذلك تحدد ما يترتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة حتما لإفساده للنفوس البشرية وهو الشرك ، وتبين أن ما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفس ، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفس قويا يقتضي العقاب ، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير المضاد له من صالح الأعمال ـ راجع تفسير : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ( 4 : 17 ) ، إلخ ص 440 - 452 من جزء التفسير الرابع .

التالي السابق


الخدمات العلمية