قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله الطيب : ضد الخبيث ، والمقابلة بينهما في القرآن كثيرة كقوله تعالى : 
قل لا يستوي الخبيث والطيب   ( 5 : 100 ) وقد استعملا في الأناسي والأشياء والأفعال والأقوال ، ومنه مثل الكلمة الخبيثة والكلمة الطيبة في سورة إبراهيم ، ومنه 
بلدة طيبة   ( 34 : 15 ) قال 
الراغب    : المخبث والخبيث ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أم معقولا ، وأصله : الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد . اهـ . وقال في الحرف الآخر : وأصل الطيب ما تستلذه الحواس ، وما تستلذه النفس . اهـ . فجعل الطيب أخص من مقابله في بابه ، والصواب ما قلناه ، والطيبات من الطعام هي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة المعتدلة المعيشة ، بمقتضى طبعها ، فتأكله باشتهاء ، وما أكله الإنسان باشتهاء هو الذي يسيغه ويهضمه بسهولة ، فيتغذى به غذاء صالحا ، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ، ولا ينال منه غذاء صالحا ، بل يضره غالبا فما حرمه الله في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة لفطرته التي فطر الناس عليها ، فما زال السواد الأعظم من أصحاب الطباع السليمة والفطرة المعتدلة يعافون 
أكل الميتة حتف أنفها ، وما مثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح ونحوها ، وكذلك الدم المسفوح ، وأما 
لحم الخنزير فإنما يعافه من يعرف ضرره وانهماكه في أكل الأقذار   . و " الجوارح " : جمع جارحة ، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور كما قال الراغب . 
قال المفسرون : سميت الصوائد جوارح من الجرح ، بمعنى الكسب ; فهي كالكاسب من الناس ، قال تعالى : 
ويعلم ما جرحتم بالنهار   ( 6 : 60 ) أي : كسبتم ، وقيل : من الجرح : بمعنى الخدش ، أي إن من شأنها أن تجرح ما تصيده . و " مكلبين " اسم فاعل من التكليب ، وهو تعليم الجوارح وتأديبها وإضراؤها بالصيد ، وأصله تعليم الكلاب ، غلب لأنه الأكثر ، وقيل : إنه من الكلب بالتحريك ، بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب - ككتف - بكذا ، إذا كان ضاريا به ، وموضع 
مكلبين   : النصب على الحال ، وكذلك جملة 
تعلمونهن مما علمكم الله أو هي استئناف ، أي : أنتم تعلمونهن مما علمكم الله ، أي مما ألهمكم الله إياه وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها ، وما ألهمكم ذلك الانتفاع إلا وهو يبيحه لكم ، ونكتة هذه الجملة على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم ; لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت ، فتصطاد لنفسها ولا تمسك على صاحبها ، وإمساكها عليه   
[ ص: 142 ] شرط لحل صيدها ، نص عليه في الجملة التي بعد هذه ، وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله - تعالى - أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم ، وإذا كانت الجملة استئنافا فنكتتها تذكير الناس بفضل الله عليهم بهدايتهم إلى مثل هذا التعليم على سنة القرآن في مزج الأحكام بما يغذي التوحيد وينمي الاعتراف بفضل الله وشكر نعمه . وغاية 
تعليم الجارح أن يتبع الصيد بإغراء معلمه أو الصائد به ، ويجيب دعوته وينزجر بزجره ، ويمسك الصيد عليه . 
والمعنى : أحل لكم أكل الطيبات كلها ، وصيد ما علمتم من الجوارح بشرطه . أما الطيبات فظاهر الحصر في آيتي الأنعام والنحل أن كل ما عدا المنصوص من المحرمات طيب فهو حلال ، ولولاه لكان الظاهر أن يقال : إن من الطعام ما هو خبيث محرم بنص الكتاب ، وهو ما ذكر في الآية السابقة ، ومنه ما هو طيب حل بنص الكتاب ; كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر ، أي ما شأنه أن يصاد منهما . فأما البحر فكل حيوانه يصاد ، وأما البر فإنما يصاد منه للأكل في العادة والعرف الغالب ، ما عدا سباع الوحش والطير ، فتكون هذه السباع حراما ، وهو ظاهر حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=919302نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير   . وحديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني    : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=919299كل ذي ناب من السباع فأكله حرام رواهما 
أحمد  ومسلم  وأصحاب السنن ، ما عدا 
الترمذي  في الأول ، 
وأبا داود  في الثاني . ومن أخذ بالحصر في الآيتين جعل النهي عما ذكر نهي كراهة ، وهو المشهور من مذهب 
مالك  ، كما قاله 
ابن العربي  ، وقال 
ابن رسلان    : مشهور مذهبه على إباحة ذلك ، وهو لا ينافي كراهة التنزيه ، وكأنه يرى أن حديث 
أبي ثعلبة  مروي بالمعنى إن كان قد بلغه . والسبع عند 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي    : ما يعدو على الناس والحيوان ; فيخرج الضبع والثعلب ; لأنهما لا يعدوان على الناس ، وعند 
أبي حنيفة  كل ما أكل اللحم ، قالوا : فيدخل فيه الضبع والضب والنمر واليربوع والفيل ، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز أكل الضب ، كما في حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد  ، وحديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر  في الصحيحين وغيرهما ، وأحاديث أخرى ، وصرح بأنه يعافه لأنه لم يكن في أرض قومه . وأجاز 
أكل الضبع ، رواه 
أحمد   nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي  وأصحاب السنن وغيرهم ، وصححه 
الترمذي  وغيره ، وهو يدل لما ذكرناه من أخذ تحريم السباع من مفهوم الصيد ، ونصه عن 
عبد الرحمن بن عبد الله  عن 
عبد الله بن أبي عمارة  ، قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=919303قلت لجابر    : الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم   . 
ويمكن أن يقال أيضا - لولا ما ذكر من الحصر - أن ما لا نص في الكتاب على حله أو على حرمته قسمان : طيب حلال وخبيث حرام ، وهل العبرة في التمييز بينهما ذوق أصحاب الطباع السليمة ، أو يعمل كل أناس بحسب ذوقهم ؟ كل من الوجهين محتمل ،   
[ ص: 143 ] والموافق لحكمة التحريم : الثاني ، وهو أنه يحرم على كل أحد أن يأكل ما تستخبثه نفسه وتعافه ; لأنه يضره ولا يصلح لتغذيته ، ولذلك قال بعض الحكماء : ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته ، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك . ويروى عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  أن العبرة ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب الذين خوطبوا بهذا أولا ، ويرد عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاف 
أكل الضب وعلله بأنه ليس في أرض قومه ، وأذن لغيره بأكله وصرح بأنه لا يحرمه ، فلا يحكم بذوق قوم على ذوق غيرهم ، وليس هذا أمرا يتعلق باللغة حتى يقال : إنهم هم الذين خوطبوا بهذا النص أولا ، فالعبرة بما يفهمونه منه ، والناس لهم فيه تبع ، بل هو أمر متعلق بالأذواق والطباع ، ومعناه : أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى ، دون ما يستخبث ويعاف ، وحينئذ تكون العبرة بالسواد الأعظم من سليمي الطباع غير ذوي الضرورات والمعيشة الشاذة ، أو يختلف باختلاف الطباع بين الأقوام . واختلف الفقهاء فيما ينتن : أيحرم أم يكره ؟ وهو خبيث لغة وعرفا ، ولا يرد على الحصر المار لأن خبثه عارض ، وكل حلال يعرض له وصف يصير به ضارا يحرم - كاختمار العصير - فإن زال حل ; كتخلل الخمر .