صفحة جزء
روى ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي وبحري بن عمرو وشاس بن عدي ، فكلمهم وكلموه ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى . فأنزل الله فيهم ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ) إلى آخر الآية . ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب " ابن الله " قد أطلق على آدم .

( انظر إنجيل لوقا 3 : 38 ) وعلى يعقوب وداود مع لقب البكر ( انظر سفر الخروج 4 : 22 و 23 والمزمور 98 : 26 و 27 ) وكذا على إفرام ( انظر نبوة أرمياء 31 : 9 ) وعلى المسيح ، عليهم السلام ، ولكن مع لقب الحبيب ; فهو تفسير لكلمة ابن ، وأطلق مجموعا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين ، وهذا الاستعمال كثير في العهد الجديد ، ومنه ما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل ( 5 : 9 طوبى لصانعي السلام ; لأنهم أبناء الله يدعون ) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية ( 8 : 14 لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ) وجاء في سياق المناظرة بين المسيح واليهود من إنجيل يوحنا ، ما نصه : ( 8 : 41 أنتم تعلمون أعمال أبيكم ، فقالوا له : إننا لم نولد من زنا ، لنا أب واحد ، وهو الله 42 فقال لهم يسوع : لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ، إلى أن قال - 44 أنتم من أب ، هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ) وفي هذا المعنى ما جاء في الرسالة الأولى ، من رسالتي يوحنا ( 3 : 9 كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة ; لأن زرعه يثبت فيه ، ولا يستطيع أن يخطئ ; لأنه مولود من الله 10 بهذا أولاد الله ظاهرون ، وأولاد إبليس ) فعلم من هذه النصوص وأشباهها أن لفظ " ابن الله " يستعمل في كتب القوم بمعنى حبيب الله الذي يعامله الله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم ، فعطف أحباء الله على أبناء الله للتفسير والإيضاح ؛ وإنما تحكم النصارى بهذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي بالنسبة إلى المسيح ، وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين . ومعنى الابن الحقيقي محال على الله تعالى ; لأنه عبارة عن الولد الذي ينشأ من تلقيح الرجل بمائه لبعض [ ص: 260 ] ما في رحم المرأة من البيض ، فالمعنى المجازي متعين كما ترى ، وسنوضحه في تفسير ( وقالت النصارى المسيح ابن الله ) ( 9 : 30 ) ولما كان ما ذكرناه مؤيدا بالشواهد هو المعنى المراد لأولئك المتبجحين من اليهود والنصارى حسن رد الله تعالى عليهم بقوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :

( قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) أي قل لهم أيها الرسول : إذا كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله تعالى بذنوبكم في الدنيا كما تعلمون من تاريخكم الماضي ، وكما ترون في تاريخكم الحاضر ، ومن هذا العذاب لليهود ما كان من تخريب الوثنيين لمسجدهم الأكبر ولبلدهم المرة بعد المرة ، ومن إزالة ملكهم من الأرض ، وللنصارى ما اضطهدهم به الأمم ، وما نكل به بعضهم ، وهو شر من تنكيلهم وتنكيل الوثنيين باليهود ; أي أن الأب لا يعذب ابنه ، والمحب لا يعذب حبيبه ، فلستم إذا أبناء الله ولا أحباءه ، بل أنتم بشر من جملة من خلق الله تعالى وهو عز وجل الحكم العدل ، لا يحابي أحدا ، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة ، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب ، فهو يجزيكم بأعمالكم ، كما يجزي سائر البشر أمثالكم ، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم ; فإنما العبرة بالإيمان الصحيح والأعمال الصالحات ، لا بمن سلف من الآباء والأمهات .

( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) أثبت الله تعالى في هذه الآية مثل ما أثبت في التي من قبلها ، من أن له ملك السماوات والأرض وما بين أجرامهما وأجزائهما من المخلوقات ، إلا أنه ختم تلك بكونه على كل شيء قدير ; لأن المقام مقام الغرابة في الخلق ، وامتياز بعضه على بعض ، وختم هذه ببيان كون المرجع والمصير إليه ; لأن المقام مقام الجزاء على الأعمال ، وذلك أن السماوات والأرض ومن فيهما وبين عالميهما نسبتها إليه تعالى واحدة ، وهي أنه الخالق المالك الرب ، ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى العلم والحكمة والعدل والفضل ، وهي المخلوقات المملوكة ، وجميع من يعقل فيها من الإنس والجن والملائكة عبيد له لا أبناء ولا بنات ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) ( 19 : 93 ) وفي ختمها بقوله : " وإليه المصير " إشعار بأنه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والغرور ، والدعاوى الباطلة ، فيعلمون عندما يصيرون إليه أنهم عبيد آبقون يجازون ، لا أبناء ولا أحباء يحابون .

وقد استشكل بعضهم كون تعذيبهم دليلا على بطلان دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ; لأنه إن أريد به عذاب الآخرة لا تقوم به الحجة عليهم لإنكارهم إياه ، وإن أريد به عذاب الدنيا ، أورد عليه أنه غير قادح في ادعائهم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يسلموا من محن الدنيا كالذي حصل في وقعةأحد ، وقتل الحسن والحسين ، عليهما السلام ، ونحن نعتقد أن [ ص: 261 ] الذين ابتلوا بهذه المحن من أحباء الله تعالى . وأجاب الرازي عن هذا الإشكال بثلاثة أجوبة ; حاصل الأول : أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخيار أمته من أحباء الله تعالى ، ولا ندعي أنهم أبناء الله تعالى . وحاصل الثاني : أن المراد عذاب الآخرة ، وقد اعترف به اليهود ; إذ قالوا : " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " . وحاصل الثالث : أن المراد به المسخ الذي وقع لبعض اليهود قبل الإسلام ، أضيف إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم . قال الرازي بعد شرح الأجوبة بعبارة أخرى : وهذا الجواب أولى ; لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود ; فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا ، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد حتى يكون الاستدلال قويا متينا ، انتهى .

ونحن نقول : إن هذا الأخير أضعفها ، وإنهم لا يعترفون به أيضا ، وإنه لا حجة فيه ولا في الثاني على النصارى ; فيكون تسليما لهم ، أو إقرارا على دعوى أنهم أبناء الله ، وهم الذين يكثرون هذه الدعوى ويتبجحون بها ، ثم إن التعبير بالمضارع ( يعذبكم ) ينفي أن يكون المراد تعذيبا خاصا بطائفة وقع في الزمن الماضي ، وأقوى أجوبته الأول ، ولكنه لم يفطن لما فيه من القوة ، ولم يبينه بيانا تاما ، على أنه لم يحرر أصل الدعوى ; فيهتدي إلى تحرير الجواب . والصواب أن هذا الإشكال لا يرد على الإسلام والقرآن ، وإليك البيان الصحيح الذي يتضاءل به حتى يدخل في خبر كان .

كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ، ميزهم لذاتهم على جميع البشر ; فلا يمكن أن يساويهم شعب آخر عنده ، وإن كان أصح منهم إيمانا وأصلح عملا ، وأنهم لا يكونون تابعين لغيرهم في الدين ، فلا يصح أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ; لأنه عربي ، لا إسرائيلي ، والفاضل لا يتبع المفضول بزعمهم ، ولا يمكن أن يؤاخذهم الله على الكفر به ; لأنهم شعبه الخاص المحبوب ، فهو لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء ، والمحب لمحبوبه الخاص ، وأما النصارى فقد أربوا عليهم في الغرور ، وإن كان النبي الذي يدعون اتباعه قد جاهد غرور اليهود جهادا عظيما ، فهم يدعون أن المسيح قد فداهم بنفسه ، وأنهم أبناء الله بولادة الروح ، والمسيح ابنه الحقيقي ، ويخاطبون الله تعالى دائما بلقب الأب . وقد كانت جميع فرقهم في زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أشد من اليهود فسادا وإفسادا ، وفسقا وفجورا ، وظلما وعدوانا ، بشهادة مؤرخي الأمم كلها ، منهم ومن غيرهم ، ومع هذا كله كانوا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم غير محتاجين إلى إصلاح في دينهم ولا دنياهم ; ولهذا رفضوا ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والفضائل الصحيحة ، والأعمال الصالحة ، وردوا ما جاءهم به من كون مرضاة الله تعالى ومثوبته لا تنالان إلا بتزكية النفس وإصلاحها بالتوحيد والعمل .

[ ص: 262 ] هذا حاصل ما كان عليه اليهود والنصارى من الغرور بدينهم وأنفسهم ، وبأنبيائهم الذين تركوا هديهم وضلوا طريقهم ، وقد عبر الكتاب الحكيم عن ذلك هنا بأوجز لفظ وأخصره ، وهو قولهم : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وحاصل رده عليهم : أنكم من نوع البشر الذي هو من جنس مخلوقات الله تعالى وأنه ليس لكم ولا لغيركم من طوائف البشر ، امتياز ذاتي خاص ، ولا نسبة ذاتية إليه تعالى ; لأن جميع خلقه بالنسبة إليه سواء ، وقد مضت سنته في البشر بأن يعذبهم في الدنيا بما كسبت أيديهم ، ويعفو عن كثير من أعمالهم ويغفرها فلا يعجل لهم العذاب عليها ، وذلك بحسب مشيئته المطابقة لعلمه وعدله وحكمته . فإذا كان لكم امتياز ذاتي ، على جميع البشر ، فلم يعذبكم بذنوبكم في هذه الدنيا ، كما يعذب غيركم بذنوبهم ؟ وأنتم تعلمون هذا علم اليقين من أنفسكم ، ومن تاريخكم . والمضارع " يعذبكم " هنا لبيان الشأن المستمر في معاملتهم ; فهو يدل على أن هذا التعذيب ثابت في كل زمان ، متى وقع سببه ووجدت علته ، والكلام في سنة الله في الأمم والشعوب ، وتاريخهم فيه كتاريخ غيرهم قبل البعثة وفي زمنها وبعدها : ما عذبت أمة من الأمم بشيء إلا وعذبوا بمثله ، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه ، ولو مجازا ، بحسب ما بيناه بالشواهد من كتبهم ، لما حل بهم ما حل بغيرهم ، أو لم تكن لهم ذنوب يعذبون بها كما قال يوحنا ( 1 يو 3 : 9 ) .

إذا فقهت هذا ظهر لك أن إشكال الرازي غير وارد أصلا ; فإن الكلام في الأمم والشعوب وإبطال دعوى أن يكون شعب منها ممتازا عند الله بذاته ، لا تجري عليه سنته في سائر خلقه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أن أمته لها مثل هذا الامتياز ، وأن كل من انتمى إليها كان من أبناء الله ولا من أحبائه ، مهما عملوا من الأعمال ; فيقال : لم غلبوا إذا في غزوة " أحد " ؟ كيف وقد كان فيهم بأحد المنافقين ، وضعفاء الإيمان ؟ يثبت لك هذا ما أنزله الله تعالى في شأن غزوة أحد من الآيات ; فقد بين فيها أن ما أصاب المسلمين إنما أصابهم بذنوب بعضهم ; إذ خالف الرماة أمر نبيهم وقائدهم ، وتنازعوا واختلفوا في أمرهم ، وأن الأيام دول والعاقبة للمتقين ، فهم الذين يتعظون بالحوادث ، فلا يعودون إلى مثل ما عوقبوا به ، وقد قال تعالى في فاتحة سياق هذه القصة : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) ( 3 : 137 - 141 ) ثم قال : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) ( 3 : 152 ) إلى آخر الآية 155 ، ثم قال : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هـذا قل هو من عند أنفسكم ) ( 3 : 165 ) . . . إلخ .

[ ص: 263 ] فأنت ترى أن هذه الآيات تبين سنته تعالى في البشر ، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال ، لا على الأسماء والألقاب ، وهذا هو الذي يصدقه الوجود ، وتشهد به تواريخ جميع الأقوال والأجيال ، غاية الأمر أن شأن أهل الإيمان الصحيح والدين القيم أن يكونوا أعرف بسنن الله تعالى في خلقه ; فتكون ذنوبهم التي يعاقبون بها موعظة يتعظون بها ، وتمحيصا يكمل نفوسهم بالعبر ، ويعلي شأنها ، وأن يكونوا من المتقين لكل ما جعله الله سببا للخيبة والخسران ; كالظلم والبغي والعدوان ، والتنازع والتفرق ، والغرور وعدم النظام ، وبهذا يكونون من أحباء الله تعالى ويكون ما حل بهم من قبيل تربية الوالد لولده ، ولا يحسن أن يسمى تعذيبا ; لأن مرارة الدواء الذي يشفيك من السقم ، ليس كالسوط الذي لا يصيبك منه إلا الألم .

ومن راجع تفسير هذه الآيات في الجزء الرابع من تفسيرنا هذا يتجلى له الحق في ذلك تمام التجلي ، ولكن المسلمين لم يعتصموا بهذا البيان ; فيتقوا غرور أهل الكتاب ، بل اتبعوا سنتهم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، إلى أن آل الأمر إلى ضد ما كان ، فترك جماهير أهل الكتاب ذلك الغرور بدينهم ، واهتدوا بسنن الله في الأمم والدول التي كانت قبلهم ، فساروا عليها في سياسة ملكهم ، وكان آخر حوادث غرور دولهم الكبرى غرور دولة الروسية في حربها مع دولة اليابان الوثنية ، على أنه لم يكن غرورا دينيا محضا ، بل كان ممزوجا بالاستعداد الدنيوي مزجا ، وبقي من اتبعوا سننهم من المسلمين ثابتين على تقليد أولئك المخذولين ، وفتن بعضهم بالمتأخرين المعتبرين ، ولكنهم ما احتذوا مثالهم في أمر الدنيا ، ولا رجعوا في مثله إلى هدي الدين ( وما يتذكر إلا من ينيب ) ( 40 : 13 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية