( 
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل   ) قال في اللسان وقد ذكر الآية : وقول العرب فعلت ذلك من أجل كذا وأجل كذا ( بفتح اللام ) ومن أجلاك ( وتكسر الهمزة فيهما ) قال 
الأزهري    : " والأصل في قولهم فعلته من أجلك : أجل عليهم أجلا ; أي جنى وجر " ثم قال : وأجل عليهم شرا يأجله ( بضم الجيم وكسرها ) أجلا : جناه وهيجه ، وأورد شواهد من الشعر ، ثم قال 
أبو زيد    : أجلت عليهم آجل أجلا ; أي جررت جريرة ، قال 
أبو عمر    : يقال : جلبت عليهم وجررت وأجلت ، بمعنى واحد ; أي جنيت ، وأجل لأهله بأجل : كسب وجمع واحتال ، انتهى . وزاد 
الراغب  في مفرداته قيدا في تعريف الأجل ، فقال : الأجل : الجناية التي يخاف منها آجلا ، فكل أجل جناية ، وليس كل جناية أجلا ، يقال : فعلت كذا من أجله ، قال تعالى : ( 
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل   ) أي من جرائه . انتهى . 
وأقول : لا حاجة إلى القيد ; لأن من شأن كل جناية أن يخاف آجلها وتحذر عاقبتها ، ومن تتبع الشواهد والأقوال يرجح معي أن الأجل هو جلب الشيء الذي له عاقبة أو ثمرة ، وكسبه أو تهييجه ، ويعدى باللام ، وقد تكون العاقبة حسنة كقولهم : أجل لأهله ، وغلب الفعل في الرديء والشر ، وإن عدي باللام كقول 
توبة بن مضرس العيسي    : 
فإن تك أم ابني زميلة أثكلت فيا رب أخرى قد أجلت لها ثكلا 
 [ ص: 288 ] ثم استعمل في التعليل مطلقا ، كما قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16559عدي بن زيد  أجل أن الله قد فضلكم 
البيت ، وهو بغير من . 
ومعنى العبارة أنه بسبب ذلك الجرم والقتل الذي أحله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا ، لا بسبب آخر كتبنا وفرضنا على 
بني إسرائيل  كيت وكيت ، فتقديم الجار والمجرور على ( كتبنا ) يفيد أن هذا التشديد في 
تشنيع القتل كان بسبب هذه الجناية الدالة على أن البشر عرضة للبغي الشديد الذي يفضي إلى القتل بغير حق ، إذا لم يردعهم الوعيد الشديد ، أو خوف العقاب العتيد ، ولعل تخصيص 
بني إسرائيل  بالذكر هو الذي أخذ منه 
الحسن  قوله : إن ولدي 
آدم  هذين كانا من 
بني إسرائيل  ، والجمهور يقولون : إن هذا التخصيص للتعريض بما كان من شدة حسد 
اليهود  للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب ; لأنه بعث فيهم ، كما بين الله ذلك في كتابه من قبل ، وبما كان من إسرافهم في البغي ، ومنه قتلهم للأنبياء ، عليهم السلام ، بغير حق . 
وأما هذا الذي كتبه الله عليهم فهو ( 
أنه من قتل نفسا بغير نفس   ) أي بغير سبب القصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله الآتي في هذه السورة : ( 
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس   ) ( 5 : 45 ) أي من قتل نفسا يقتل بها جزاء وفاقا ( 
أو فساد في الأرض   ) أو غير سبب فساد في الأرض بسلب الأمن ، والخروج على أئمة العدل ، وإهلاك الحرث والنسل ، كما تفعله العصابات المسلحة لقتل الأنفس ونهب الأموال ، أو إفساد الأمر على ذي السلطان المقيم لحدود الله ، وهو ما سيأتي حكمه قريبا في قوله تعالى : ( 
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا   ) ( 5 : 33 ) الآية . 
( 
فكأنما قتل الناس جميعا   ) لأن الواحد يمثل النوع في جملته ، فمن استحل دمه بغير حق يستحل دم كل واحد كذلك ; لأنه مثله ، فتكون نفسه ضاربة بالبغي لا وازع لها من ذاتها ولا من الدين ( 
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا   ) أي ومن كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا ; لأن الباعث له على إنقاذ الواحدة - وهو الرحمة والشفقة ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها ، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها - تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه ، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها لا يني في ذلك ولا يدخر وسعا ، ومن كان كذلك لا يقصر في حق من حقوق البشر عليه . ويلزم من ذلك أنه لو كان جميع الناس أو أكثرهم مثل ذلك الذي قتل نفسا واحدة بغير حق لكانوا عرضة للهلاك بالقتل في كل وقت ، ولو كانوا مثل ذلك الذي أحيا نفسا واحدة احتراما لها وقياما بحقوقها لامتنع القتل بغير الحق من الأرض ، وعاش الناس متعاونين ، بل إخوانا متحابين متوادين ، فالآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة   
[ ص: 289 ] الجميع ، واتقائه ضرر كل فرد ; لأن انتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع ، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع ، وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع ، قيام بحق الجميع . وقد غفل عن هذا المعنى العالي من جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل . 
وقد بينا من قبل أن القرآن كثيرا ما يهدينا إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها ، بمثل إسناد عمل المتقدمين منها إلى المتأخرين ، ووضع اسم الأمة أو ضميرها في مقام الحكاية ، أو الخطاب لبعض أفرادها ، ومن ذلك ما تقدم في تفسير : ( 
ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم   ) ( 4 : 29 ) فقد قلنا هنالك - بعد إيراد عدة آيات في هذا المعنى بمثل هذا التعبير ، وبيان كونه يدل على وحدة الأمة وتكافلها - ما نصه : بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم ، لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية فقط بقوله عز وجل : ( 
من قتل نفسا بغير نفس   ) الآية . 
وروي أن وجه التشبيه هو القصاص ، فمن قتل نفسا واحدة كمن قتل كل الناس في كونه يقتل قصاصا بالواحدة وبالكثير ؛ إذ لا عقوبة فوق القتل ، رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  عن 
ابن زيد  عن أبيه ، ولا يظهر مثل هذا المعنى في " الإحياء " . والمروي عن 
ابن زيد  فيه أن 
ولي الدم إذا عفا عن القاتل كان له من الأجر مثل أجر من أحيا الناس جميعا ، وقيل مثل هذا في القتل ؛ وهو أن إثم قتل النفس الواحدة مثل إثم قتل جميع الناس ، وجزاؤهما واحد ، وقد بين في سورة النساء ( ص37 ج 5 ط الهيئة ) وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أن المراد بالنفس في الموضعين نفس النبي أو الإمام العادل ، وإحياؤها نصره وشد عضده ، وهو صحيح المعنى ; لأن قتل المصلح أو إنقاذه ونصره يؤثر في الأمة كلها ، ولكن اللفظ يأباه ، وما أراه يصح عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  وروي عن غيره ومنه أن من حرم قتل نفس بدون حق حيى الناس جميعا منه . وقيل إن المعنى أن من قتل نفسا كان قتلها كقتل الناس جميعا عند المقتول وبالنسبة إليه ، ومن أنقذها من القتل كان عند المنقذ كإحياء الناس جميعا ، روى هذه الأقوال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  ، واختار منها أن وجه التشبيه في القتل هو عقاب الآخرة ، وفي الإحياء أنه سلامة الناس ممن يحرم على نفسه قتل النفس التي حرمها الله ، وما قلناه أولا أوضح وأجمع للمعاني . 
ومن الغرائب أن هذه الحكمة العالية من جملة ما نسي 
بنو إسرائيل  من أحكام دينهم ; إذ فقدت التوراة ، ثم كتبوا ما بقي في حفظهم من أحكامها ، فأما قصة ابني 
آدم  فهي في الفصل الرابع من سفر التكوين ، وملخصها أن 
قابيل  لما قدم قربانا للرب من ثمرات الأرض ، وقدم 
هابيل  قربانا من أبكار غنمه ، ونظر الرب إلى 
هابيل  وقربانه دون أخيه اغتاظ   
[ ص: 290 ] قايين  وقتل 
هابيل  ، فسأله الرب عنه : أين هو ؟ فأجاب : لا أعلم ، وهل أنا حارس لأخي ؟ فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض ! فندم ، واسترحم الرب ، وخاف أن يقتله كل من وجده ( 15 - فقال له الرب : لذلك كل من قتل 
قايين  فسبعة أضعاف ينتقم منه ، وجعل الرب 
لقايين  علامة لكي لا يقتله كل من وجده ( ! ! ) فخرج 
قايين  من لدن الرب ، وسكن في 
أرض نود  شرقي 
عدن    ! ! ) وفي الفصل التاسع منه أن 
نوحا  قال لبنيه ( 6 سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه ; لأن الله على صورته عمل الإنسان ) وفي الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج أن من قتل إنسانا عمدا يقتل ، ومن بغى على صاحبه ليقتله بغدر " فمن عند مذبحي تأخذه للموت " ومن ضرب أباه أو أمه أو شتمهما ، أو سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل ، فأسباب القتل عندهم كثيرة ، ولم تكن هذه الشدة رادعة لهم عن القتل بغير حق حتى قتل الأنبياء ، فهل يكثر عليهم ما كانوا عزموا عليه من قتل النبي المصطفى غدرا ؟ لا ، لا ، ولهذا قال تعالى فيهم :