فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ( 31 )

سأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار حرصا منهم على الجهاد ونيل ما أعد الله للمجاهدين من جزيل الثواب ، فحكى الله عنهم ذلك بقوله : ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة أي : هلا نزلت فإذا أنزلت سورة محكمة أي : غير منسوخة وذكر فيها القتال أي : فرض الجهاد . قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين ، وفي قراءة ابن مسعود ( فإذا أنزلت سورة محدثة ) أي : محدثة النزول .

قرأ الجمهور ( فإذا أنزلت ) وذكر على بناء الفعلين للمفعول .

وقرأ زيد بن علي ، وابن عمير ( نزلت ) ، وذكر على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض أي : شك ، وهم المنافقون ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت أي ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار .

قال ابن قتيبة ، والزجاج : يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص بصره عند الموت فأولى لهم قال الجوهري : وقولهم أولى لك تهديد ووعيد ، وكذا قال مقاتل ، والكلبي ، وقتادة .

قال الأصمعي : معنى قولهم في التهديد " أولى لك " أي : وليك وقاربك ما تكره ، وأنشد قول الشاعر :

فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي : قارب أن يزيد .

قال ثعلب : ولم يقل في ( أولى ) أحسن مما قاله الأصمعي .

وقال المبرد : يقال لمن هم بالغضب ثم أفلت : أولى لك : أي قاربت الغضب .

وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل : أي فويل لهم ، وكذا قال في الكشاف .

قال قتادة أيضا : كأنه قال العقاب أولى لهم .

وقوله : طاعة وقول معروف كلام مستأنف : أي : أمرهم طاعة ، أو طاعة وقول معروف خير لكم .

قال الخليل ، وسيبويه : إن التقدير : والطاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما .

وقيل إن ( طاعة ) خبر ( أولى ) ، وقيل إن ( طاعة ) صفة ل ( سورة ) ، وقيل إن ( لهم ) خبر مقدم و ( طاعة ) مبتدأ مؤخر ، والأول أولى فإذا عزم الأمر عزم الأمر جد الأمر : أي : جد القتال ، ووجب وفرض ، وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا ، وجواب ( إذا ) قيل : هو ( فلو صدقوا الله ) ، وقيل : محذوف تقديره كرهوه .

قال المفسرون معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا الله في إظهار الإيمان والطاعة لكان خيرا لهم من المعصية والمخالفة .

فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع .

قال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم .

وقال كعب أن تفسدوا في الأرض أي بقتل بعضكم بعضا ، وقال قتادة : إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم .

وقال ابن جريج : إن توليتم عن الطاعة ، وقيل : أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه .

قرأ الجمهور ( توليتم ) مبنيا للفاعل ، وقرأ علي بن أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنيا للمفعول ، وبها قرأ ابن أبي إسحاق ، وورش ، عن يعقوب ، ومعناها : فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل .

وقرأ الجمهور ( وتقطعوا ) بالتشديد على التكثير ، وقرأ أبو [ ص: 1377 ] عمرو ، في رواية عنه وسلام ، وعيسى ، ويعقوب بالتخفيف من القطع يقال : عسيت أن أفعل كذا ، وعسيت بالفتح والكسر لغتان ، ذكره الجوهري ، وغيره ، وخبر ( عسيتم ) هو ( أن تفسدوا ) والجملة الشرطية بينهما اعتراض .

والإشارة بقوله : ( أولئك ) إلى المخاطبين بما تقدم وهو مبتدأ وخبره : الذين لعنهم الله أي : أبعدهم من رحمته وطردهم عنها فأصمهم عن استماع الحق وأعمى أبصارهم عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .

والاستفهام في قوله : أفلا يتدبرون القرآن للإنكار ، والمعنى : أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة ، والحجج الظاهرة ، والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم ، وعقل ، وتزجره عن الكفر بالله ، والإشراك به ، والعمل بمعاصيه أم على قلوب أقفالها ( أم ) هي المنقطعة : أي : بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون .

قال مقاتل : يعني الطبع على القلوب ، والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق ، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب ، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ، ولا يخرج منها الكفر والشرك ؛ لأن الله سبحانه قد طبع عليها ، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين .

قرأ الجمهور ( أقفالها ) بالجمع ، وقرئ ( إقفالها ) بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال .

إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي رجعوا كفارا كما كانوا ، قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما عرفوا نعته عندهم ، وبه قال ابن جرير . وقال الضحاك ، والسدي : هم المنافقون قعدوا عن القتال . وهذا أولى لأن السياق في المنافقين من بعد ما تبين لهم الهدى بما جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من المعجزات الظاهرة ، والدلائل الواضحة الشيطان سول لهم أي : زين لهم خطاياهم وسهل لهم الوقوع فيها ، وهذه الجملة خبر إن ، ومعنى ( وأملى لهم ) أن الشيطان مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر ، وقيل : إن الذي أملى لهم هو الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة .

قرأ الجمهور ( أملى ) مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو عمرو ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وأبو جعفر ، وشيبة على البناء للمفعول .

قيل : وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله ، أو الشيطان كالقراءة الأولى ، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفراء ، والمفضل ، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريبا .

والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى ما تقدم من ارتدادهم ، وهو مبتدأ وخبره بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمر وهذا البعض هو عداوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومخالفة ما جاء به .

وقيل : المعنى : إن المنافقين قالوا لليهود : سنطيعكم في بعض الأمر ، وقيل إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله : المنافقون ، وقيل : إن الإشارة بقوله ( ذلك ) إلى الإملاء ، وقيل : إلى التسويل ، والأول أولى .

ويؤيد كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم [ الحشر : 11 ] ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم ، قال الله سبحانه : والله يعلم إسرارهم قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم .

وقرأ الكوفيون ، وحمزة ، والنسائي ، وحفص ، عن عاصم ، وابن وثاب ، والأعمش بكسر الهمزة على المصدر : أي إخفاءهم .

فكيف إذا توفتهم الملائكة الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، و ( كيف ) في محل رفع على أنها خبر مقدم ، والتقدير : فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ، أو في محل نصب بفعل محذوف : أي فكيف يصنعون ، أو خبر ل " كان " مقدرة : أي فكيف يكونون ، والظرف معمول للمقدر ، قرأ الجمهور ( توفتهم ) وقرأ الأعمش ، ( توفاهم ) وجملة يضربون وجوههم وأدبارهم في محل نصب على الحال من فاعل ( توفتهم ) أو من مفعوله : أي : ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم ، وفي الكلام تخويف وتشديد ، والمعنى : أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا ، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه .

وقيل : ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقيل : ذلك يوم القيامة ، والأول أولى .

والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة ، وهو مبتدأ وخبره بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي ، وقيل : كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والأول أولى لما في الصيغة من العموم وكرهوا رضوانه أي كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة ، فأحبط الله أعمالهم بهذا السبب ، والمراد بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة ، وإلا فلا عمل لكافر ، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردة .

أم حسب الذين في قلوبهم مرض يعني المنافقين المذكورين سابقا ، و ( أم ) هي المنقطعة أي : بل أحسب المنافقون أن لن يخرج الله أضغانهم الإخراج بمعنى الإظهار ، والأضغان جمع ضغن ، وهو ما يضمر من المكروه .

واختلف في معناه ، فقيل : هو الغش ، وقيل : الحسد ، وقيل : الحقد .

قال الجوهري : الضغن والضغينة الحقد .

وقال قطرب : هو في الآية العداوة ، و ( أن ) هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر .

ولو نشاء لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية ، تقول العرب : سأريك ما أصنع : أي سأعلمك فلعرفتهم بسيماهم أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها .

قال الزجاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة ، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة ، والفاء لترتيب المعرفة على الإرادة ، وما بعدها معطوف على جواب ( لو ) ، وكررت في المعطوف [ ص: 1378 ] للتأكيد ، وأما اللام في قوله : ولتعرفنهم في لحن القول فهي جواب قسم محذوف .

قال المفسرون : لحن القول فحواه ، ومقصده ، ومغزاه ، وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين ، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه .

قال أبو زيد : لحنت له اللحن : إذا قلت له قولا يفقهه عنك ويخفى على غيره ، ومنه قول الشاعر :

    منطق صائب وتلحن أحيانا
وخير الكلام ما كان لحنا أي : أحسنه ما كان تعريضا يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه ، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض والله يعلم أعمالكم لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها ، وفيه وعيد شديد .

ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين أي لنعاملنكم معاملة المختبر ، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاق ما كلف به .

قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون ، وقرأ أبو بكر ، عن عاصم بالتحتية فيها كلها ، ومعنى ونبلو أخباركم نظهرها ونكشفها امتحانا لكم ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به ، ومن عصى ، ومن لم يمتثل .

وقرأ الجمهور ( ونبلو ) بنصب الواو عطفا على قوله ( حتى نعلم ) ، وروى ورش ، عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله .

وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن ، فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم ، أترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى . قال : فذلك لك ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : اقرءوا إن شئتم فهل عسيتم الآية إلى قوله أم على قلوب أقفالها والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدا .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : إن الذين ارتدوا على أدبارهم قال : هم أهل النفاق .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم قال : أعمالهم خبثهم ، والحسد الذي في قلوبهم ، ثم دل الله تعالى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد على المنافقين فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق .

وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد الخدري ، في قوله : ولتعرفنهم في لحن القول قال : ببغضهم علي بن أبي طالب .

التالي السابق


الخدمات العلمية