صفحة جزء
فصل .

قال في البرهان : ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة ، واختصاص كل واحدة بما بدئت به حتى لم يكن لترد الم في موضع الر ولا حم في موضع طس .

قال : وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها ، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له ، فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة فيها ، فلو وضع ( ق ) موضع ( ن ) لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله ، وسورة ( ق ) بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف ، من ذكر القرآن والخلق وتكرير القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين ، وقول العتيد ، والرقيب ، والسائق ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، والقلب ، والقرون ، والتنقيب في البلاد وتشقق الأرض ، وحقوق الوعيد ، وغير ذلك .

وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها الراء مائتا كلمة أو أكثر ، فلهذا افتتحت ب الر واشتملت سورة ( ص ) على خصومات متعددة ، فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار ، وقولهم : أجعل الآلهة إلها واحدا [ ص : 5 ] . ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ، ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس في شأن آدم ، ثم في شأن بنيه وإغوائهم .

و ( الم ) جمعت المخارج الثلاثة : الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق ، والنهاية التي هي بدء الميعاد ، والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي ، وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة .

وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على ( الم ) لما فيها من شرح القصص ، قصة آدم فمن بعده من الأنبياء ، ولما فيها من ذكر : فلا يكن في صدرك حرج ولهذا قال [ ص: 228 ] بعضهم : معنى المص : ألم نشرح لك صدرك وزيد في الرعد راء لأجل قوله : رفع السماوات [ 2 ] . ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما .

واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله : الم ذلك الكتاب [ البقرة ] . الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق [ آل عمران ] . المص كتاب أنزل إليك [ الأعراف ] . الر تلك آيات الكتاب [ الحجر ] . طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه ] . طس تلك آيات القرآن [ النمل ] . يس والقرآن . ص والقرآن . حم تنزيل الكتاب [ الجاثية ] . ق والقرآن إلا ثلاث سور : العنكبوت ، والروم ، و [ ن ] ، ليس فيها ما يتعلق به وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل .

وقال الحراني في معنى حديث : أنزل القرآن على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال .

اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق ، وكمال كل الأمر ، بدأ فكان المتحلي به جامعا لانتهاء كل خلق ، وكمال كل أمر ، فلذلك هو صلى الله عليه وسلم قسيم الكون وهو الجامع الكامل ولذلك كان خاتما ، وكتابه كذلك ، وبدأ المعاد من حين ظهوره ، فاستوفي في صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها ، وتمت عنده غاياتها : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها عليه الصلاة والسلام : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي .

[ ص: 229 ] وفي كل صلاح إقدام وإحجام ، فتصير الثلاثة الجوامع ستة هي حروف القرآن الستة ، ثم وهب حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له فتمت سبعة .

فأدنى تلك الحروف هو حرفا صلاح الدنيا فلها حرفان : حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه لبعده عن تقويمها ، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته تقويمها ، وأصل هذين الحرفين في التوراة وتمامهما في القرآن .

ويلي ذلك حرفا صلاح المعاد ، أحدهما : حرف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناتها ، والثاني : حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه لحسناتها . وأصل هذين الحرفين في الإنجيل ، وتمامهما في القرآن .

ويلي ذلك حرفا صلاح الدين : أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه .

والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه . فالحروف الخمسة للاستعمال ، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز ، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامهما في القرآن ،

ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع ، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى ، ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به أم القرآن ، وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن ، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع .

والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا والرحيمية الآخرة .

والثالثة : تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدأ أمرهما في الدين .

والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله : إياك نعبد والمتشابه في قوله : وإياك نستعين ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة بالسادس المعجوز عنه ، وهو المتشابه .

انتهى كلام الحراني والمقصود منه هو الأخير ، وبقيته ينبو عنه السمع وينفر منه [ ص: 230 ] القلب ، ولا تميل إليه النفس ، وأنا أستغفر الله من حكايته على أني أقول في مناسبة ابتداء البقرة ب الم أحسن مما قال ، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد ، حيث لا يعذر أحد في فهمه ، ابتدئت البقرة بمقابله ، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيله .

التالي السابق


الخدمات العلمية