الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 224 ] فصل .

من هذا النوع مناسبة فواتح السور وخواتمها ، وقد أفردت فيه جزءا لطيفا سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع .

وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته ، وقوله فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ القصص : 17 ] . وخروجه من وطنه ، وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يكون ظهيرا للكافرين ، وتسليته عن إخراجه من مكة ، ووعده بالعود إليها لقوله في أول السورة إنا رادوه [ القصص : 7 ] .

قال الزمخشري : وقد جعل الله فاتحة سورة قد أفلح المؤمنون وأورد في خاتمتها إنه لا يفلح الكافرون [ المؤمنون : 117 ] . فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة .

وذكر الكرماني في العجائب مثله . وقال : في سورة ( ص ) بدأها بالذكر وختمها به في قوله : إن هو إلا ذكر للعالمين [ ص : 87 ] .

وفي سورة ( ن ) بدأها بقوله ما أنت بنعمة ربك بمجنون وختمها بقوله : إنه لمجنون [ القلم : 2 ، 51 ] . ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها ، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به لفظا ، كما في فجعلهم كعصف مأكول [ الفيل : 5 ] . لإيلاف قريش [ قريش : 1 ] . فقد قال الأخفش : اتصالها بها من باب فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ القصص : 8 ] .

وقال الكواشي في تفسير المائدة : لما ختم سورة النساء أمر بالتوحيد والعدل بين العباد أكد ذلك بقوله ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] .

[ ص: 225 ] وقال غيره : إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى ، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد ، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء ، كما قال تعالى : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [ الزمر : 75 ] .

وكافتتاح سورة فاطر بالحمد لله ، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله : وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل [ سبأ : 54 ] . كما قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ الأنعام : 45 ] .

وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به . وكافتتاح سورة البقرة بقوله الم ذلك الكتاب فإنه إشارة إلى الصراط في قوله اهدنا الصراط المستقيم كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط ، قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب ، وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة .

ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها ، لأن السابقة وصف الله فيها المنافق بأربعة أمور : البخل ، وترك الصلاة ، والرياء فيها ، ومنع الزكاة ، فذكر فيها في مقابلة البخل إنا أعطيناك الكوثر أي : الخير الكثير ، وفي مقابلة ترك الصلاة : فصل أي : دم عليها ، وفي مقابلة الرياء : لربك أي : لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون : وانحر وأراد به التصدق بلحم الأضاحي .

وقال بعضهم : لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم .

أحدها : بحسب الحروف كما في الحواميم .

الثاني : الموافقة أول السورة لآخر ما قبلها كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة .

الثالث : للتوازن في اللفظ ، كآخر تبت وأول الإخلاص .

الرابع : لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى كالضحى و ألم نشرح .

[ ص: 226 ] قال بعض الأئمة : وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية .

وسورة البقرة : تضمنت قواعد الدين .

وآل عمران : مكملة لمقصودها ، فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى ، وأوجب الحج في آل عمران ، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه .

وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر ، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر لأن التوراة أصل ، والإنجيل فرع لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم . وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب .

ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب به جميع الناس ، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين ، فخوطبوا بيا أهل الكتاب ، يا بني إسرائيل ، يا أيها الذين آمنوا .

وأما سورة النساء : فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس ، وهي نوعان : مخلوقة لله ، ومقدورة لهم كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحت بقوله : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ثم قال واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما أكثر السورة في أحكامه : من نكاح النساء ومحرماته ، والمواريث المتعلقة بالأرحام ، وأن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ، ثم خلق زوجه منه ، ثم بث منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة .

وأما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ، ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل ، وما أخذ على الأمة ، وبها تم الدين ، فهي سورة التكميل; لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين ، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال ، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله تعالى ، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كالوضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل دين ، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال والإتمام ، وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه ، ولا يزال هذا الدين كاملا ، ولهذا ورد أنها آخر ما نزل لما فيها من إشارات الختم والتمام . وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب .

[ ص: 227 ] وقال أبو جعفر بن الزبير : حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن ، وضعوا سورة القدر عقب العلق ، استدلوا بذلك على أن المراد بها الكناية في قوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر الإشارة إلى قوله : فإذا قرأت .

قال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذا بديع جدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية