صفحة جزء
( وأما المد للساكن العارض ) ويقال له أيضا : الجائز والعارض ، فإن لأهل الأداء من أئمة القراء فيه ثلاث مذاهب : ( الأول ) الإشباع كاللازم لاجتماع الساكنين اعتدادا بالعارض . قال الداني : وهو مذهب القدماء من مشيخة المصريين ، قال : وبذلك كنت أقف على الخافقاني يعني خلف بن إبراهيم بن محمد المصري .

( قلت ) : وهو اختيار الشاطبي لجميع القراء ، وأحد الوجهين في " الكافي " ، واختار بعضهم لأصحاب التحقيق كحمزة وورش والأخفش ، عن ابن ذكوان من طريق العراقيين ، ومن نحا نحوهم من أصحاب عاصم وغيره ( الثاني ) التوسط لمراعاة اجتماع الساكنين وملاحظة كونه عارضا . وهو مذهب أبي بكر بن مجاهد وأصحابه ، واختيار أبي بكر الشذائي ، والأهوازي وابن شيطا والشاطبي أيضا ، والداني ، قال : وبذلك كنت أقف على أبي الحسن وأبي الفتح وأبي القاسم - يعني عبد العزيز بن جعفر بن خواستي الفارسي ، قال : وبه حدثني الحسين بن شاكر ، عن أحمد بن نصر - يعني الشذائي ، قال : وهو اختياره . قال : وعلى ذلك ابن مجاهد وعامة أصحابه .

( قلت ) : هو الذي في " التبصرة " ، واختاره بعضهم لأصحاب التوسط وتدوير القراءة كالكسائي وخلف في اختياره ، وابن عامر في مشهور طرقه ، وعاصم في عامة رواياته ( الثالث ) القصر ; لأن السكون عارض فلا يعتد به ، ولأن الجمع بين الساكنين مما يختص بالوقف نحو : ( القدر ) ( والفجر ) . وهو مذهب أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري ، قال في قصيدته :

وإن يتطرق عند وقفك ساكن فقف دون مد ذاك رأيي بلا فخر [ ص: 336 ]     فجمعك بين الساكنين يجوز إن
وقفت وهذا من كلامهم الحر

وهو اختيار أبي إسحاق الجعبري وغيره ، والوجه الثاني في " الكافي " . وقد كره ذلك الأهوازي وقال : رأيت من الشيوخ من يكره المد في ذلك ، فإذا طالبته في اللفظ قال في الوقف بأدنى تمكين من اللفظ ، بخلاف ما يعبر به ، وكذلك لم يرفضه الشاطبي ، واختاره بعضهم لأصحاب الحدر والتخفيف ممن قصر المنفصل كأبي جعفر وأبي عمرو ، ويعقوب ، وقالون . قال الداني : وكنت أرى أبا علي شيخنا يأخذ به في مذاهبهم ، وحدثني به عن أحمد بن نصر .

( قلت ) : الصحيح جواز كل من الثلاثة لجميع القراء ؛ لعموم قاعدة الاعتداد بالعارض وعدمه عن الجميع إلا عند من أثبت تفاوت المراتب في اللازم ، فإنه يجوز فيه لكل ذي مرتبة في اللازم تلك المرتبة وما دونها ؛ للقاعدة المذكورة . ولا يجوز ما فوقها بحال كما سيأتي إيضاحه آخر الباب ، والله أعلم .

وبعضهم فرق بين عروض سكون الوقف وبين عروض سكون الإدغام الكبير لأبي عمرو ، فأجرى الثلاثة له في الوقف ، وخص الإدغام بالمد وألحقه باللازم كما فعل أبو شامة في باب المد ، والصواب أن سكون إدغام أبي عمرو عارض كالسكون في الوقف ، والدليل على ذلك إجراء أحكام الوقف عليه من الإسكان والروم والإشمام كما تقدم . قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري : ولأبي عمرو في الإدغام إذا كان قبله حرف مد ثلاثة أوجه : القصر والتوسط والمد كالوقف ، ثم مثله ، وقال : نص عليها أبو العلاء . قال : والمفهوم من عبارة الناظم - يعني الشاطبي - في باب المد .

( قلت ) : أما ما وقفت عليه من كلام أبي العلاء فتقدم آخر باب الإدغام الكبير ، وأما الشاطبي فنصه على كون الإدغام عارضا ، وقد يفهم منه المد وغيره على أن الشاطبي لم يذكر في كل ساكن الوقف قصرا ، بل ذكر الوجهين ، وهما الطول والتوسط ، كما نص السخاوي في شرحه ، وهو أخبر بكلام شيخه ومراده ، وهو الصواب في شرح كلامه ؛ لقوله بعد ذلك : وفي عين الوجهين ، فإنه يريد الوجهين المتقدمين من الطول والتوسط ، بدليل قوله : [ ص: 337 ] والطول فضلا . ولو أراد القصر لقال : والمد فضل . فمقتضى اختيار الشاطبي عدم القصر في سكون الوقف ، فكذلك سكون الإدغام الكبير عنده ؛ إذ لا فرق بينهما عند من روى الإشارة في الإدغام ; ولذلك كان ( والصافات صفا ) لحمزة ملحقا باللازم كما تقدم في أمثلتنا ، فلا يجوز له فيه إلا ما يجوز في ( دابة ) و ( الحاقة ) ، ولذلك لم يجز له في الروم كما نصوا عليه . فلا فرق حينئذ بينه وبين ( أتمدونني ) له وليعقوب كما لا فرق لهما بينه وبين ( لام ) من ( الم ) ، وكذلك حكم إدغام ( أنساب بينهم ) ونحوه لرويس ، و ( أتعداني ) لهشام ونحو ذلك من ( أتأمروني ) وتاءات البزي وغيره . أما أبو عمرو ، فإن من روى الإشارة عنه في الإدغام الكبير كصاحب " التيسير " و " الشاطبية " والجمهور ، فإنه لا فرق بينه وبين الوقف ، ومهما كان مذهبه في الوقف فكذلك في الإدغام ، إن مدا فمد ، وإن قصرا فقصر ، وكذاك لم نر أحدا منهم نص على المد في الإدغام إلا ويرى المد في الوقف كأبي العز ، وسبط الخياط وأبي الفضل الرازي ، والجاجاني ، وغيرهم ، ولا نعلم أحدا منهم ذكر المد في الإدغام وهو يرى القصر في الوقف ، وأما من يرى الإشارة في الإدغام فيحتمل أن يلحقه باللازم ؛ لجريه مجراه لفظا ، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن هذا جائز وذاك واجب ، فألحقه به ، وكان ممن يرى التفاوت في مراتب اللازم كابن مهران وصاحب " التجريد " أخذ له فيه بمرتبته في اللازم ، وهو الدنيا قولا واحدا ، وإن كان ممن لا يرى التفاوت فيه كالهذلي أخذ له بالعليا ؛ إذ لا فرق بينه وبين غيره في ذلك ; ولذلك نص الهذلي في الإدغام على المد فقط ، ولم يلحقه باللازم ، بل أجراه مجرى الوقف ، والحكم فيه ما تقدم ، والله أعلم . والأوجه في ذلك أوجه اختيار لا أوجه اختلاف ، فبأي وجه قرأ أجزأ ، والله أعلم .

( قلت ) : والاختيار هو الأول أخذا بالمشهور ، وعملا بما عليه الجمهور ؛ طردا للقياس وموافقة لأكثر الناس .

( فإن قيل ) لم ثبت حرف المد من الصلة وغيرها مع لقائه الساكن المدغم في [ ص: 338 ] تاءات البزي وغيرها حتى احتيج في ذلك إلى زيادة المد لالتقاء الساكنين ، وهلا حذف حرف المد في نحو ( ومنهم الذين ) ، و ( يعلمه الله ) ، ( ولا الذين ) .

( فالجواب ) أن الإدغام في ذلك طارئ على حرف المد ، فلم يحذف لأجله ، فهو مثل إدغام ( دابة ) و ( الصاخة ) فلم يحذف حرف المد خوفا من الإجحاف باجتماع إدغام طارئ وحذف ، وأما إدغام اللام في ( الذين ) و ( الدار ) ونحوه فأصل لازم ، وليس بطارئ على حرف المد ، فإنه كذلك أبدا - كان قبله حرف مد أو لم يكن ، فحذف حرف المد للساكن طردا للقاعدة فلم يقرأ ( ومنهم الذين ) كما لم يثبت حرف المد في نحو ( قالوا اطيرنا ) ، و ( ادخلا النار ) وإلى هذا أشار الداني حيث قال في " جامع البيان " : وإذا وقع قبل التاء المشددة حرف مد ولين - ألف أو واو - نحو ( " ولا تيمموا " ، و " عنه تلهى " ) وشبههما أثبت في اللفظ ؛ لكون التشديد عارضا ، فلم يعتد به في حذفه ، وزيد في تمكينه ليتميز بذلك الساكنان أحدهما من الآخر ولا يلتقيا ، وكذلك الحكم في ( اثنا عشر ) في قراءة من سكن العين . نص أيضا على ذلك في " الجامع " .

التالي السابق


الخدمات العلمية