التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
762 [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] حديث ثامن لعبد الله بن أبي بكر

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ، وقد بعثت بهديي فاكتبي لي بأمرك ، أو مري صاحب الهدي ، قالت عمرة : فقالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، ثم بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي .


[ ص: 220 ] هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت ، ورواه عثمان بن عمر عن مالك بخلاف بعض معانيه ; لأنه ذكر فيه الإشعار ، وليس ذلك في رواية غيره في هذا الحديث ، عن مالك فيما علمت .

حدثناه سعيد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، عن يعقوب الدورقي ، عن عثمان بن عمر ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلد هديه وأشعره وبعث به إلى مكة وأقام بالمدينة ، فلم يجتنب شيئا كان له حلالا .

قال أبو عمر : هذا اللفظ ليس بصحيح في حديث مالك هذا ، وإنما هو معروف في حديث أفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة ، وسنذكره في هذا الباب إن شاء الله .

وفي حديث مالك في الموطأ معان من الفقه ، منها أن عبد الله بن عباس كان يرى أن من بعث بهدي إلى الكعبة لزمه إذا قلده أن يحرم ويجتنب كل ما يجتنب الحاج حتى ينحر هديه ، وقد تابع عبد الله بن عباس على ذلك عبد الله بن عمر وطائفة .

وروي بمثل ذلك أثر مرفوع من حديث [ ص: 221 ] جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يختلفون في مسائل الفقه ، وعلوم الديانة ، فلا يعيب بعضهم بعضا بأكثر من رد قوله ، ومخالفته إلى ما عنده من السنة في ذلك ، وهكذا يجب على كل مسلم ، ومنها ما كان عليه الأمراء من الاهتبال بأمر الدين ، والكتاب فيه إلى البلدان . ومنها عمل أزواج النبي - عليه السلام - بأيديهن وامتهانهن أنفسهن ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتهن نفسه في عمل بيته فربما خاط ثوبه وربما خصف نعله ، وقد قلد هديه المذكور في هذا الحديث بيده صلى الله عليه وسلم .

ذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا عمر بن ذر ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح ، يقول : رأيت عائشة تفتل القلائد للغنم تساق معها هديا ، ومنها التطوع بإرسال الهدي إلى الكعبة تقربا إلى الله عز وجل بذلك . وفي ذلك دليل على فضل الهدي ، والضحايا ، ومنها أن تقليد الهدي لا يوجب على صاحبه الإحرام ، وهذا المعنى الذي سبق له الحديث ، وهو الحجة عند التنازع ، وقد تنازع العلماء ، واختلفوا في ذلك .

فأما مالك فذكر ابن وهب ، وغيره عنه أنه سئل عما اختلف الناس فيه من الإحرام في تقليد الهدي ممن لا يريد الحج ولا العمرة ، فقال : الأمر عندنا [ ص: 222 ] الذي نأخذ به في ذلك قول عائشة أن النبي - عليه السلام - بعث بهديه ، ثم أقام ، فلم يترك شيئا فيما أحل الله له حتى نحر الهدي ، قال مالك : ولا ينبغي أن يقلد الهدي ، ولا يشعر إلا عند الإهلال إلا رجل لا يريد الحج فيبعث بهديه ويقيم حلالا في أهله .

وقال الثوري : إذا قلد الهدي فقد أحرم ، إن كان يريد الحج ، أو العمرة ، وإن كان لا يريد ذلك فليبعث بهديه ، وليقم حلالا .

وقال الشافعي ، وأبو ثور وداود : لا يكون أحد محرما بسياقة الهدي ، ولا بتقليده ، ولا يجب عليه بذلك إحرام حتى ينويه ويريده .

وقال أبو حنيفة : من ساق هديا ، وهو يؤم البيت ، ثم قلده ، فقد وجب عليه الإحرام ، وإن جلل الهدي ، أو أشعره لم يكن محرما ، إنما يكون محرما بالتقليد ، وقال : إن كان معه شاة فقلدها لم يجب عليه الإحرام ; لأن الغنم لا تقلد ، وقال : إن بعث بهديه فقلده وأقام حلالا ، ثم بدا له أن يخرج فخرج واتبع هديه ، فإنه لا يكون محرما حين يخرج ، إنما يكون محرما إذا أدرك هديه وأخذه وسار به وساقه معه .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إن بعث بهدي لمتعة ، ثم أقام حلالا أياما ، ثم خرج ، وقد كان قلد هديه ، فهو محرم حين يخرج ، ألا ترى أنه بعث بهدي المتعة .

وقال ابن عباس ، وابن عمر ، وميمون بن أبي شبيب وجماعة : من قلد ، أو أشعر ، أو جلل [ ص: 223 ] فقد أحرم ، وإن كان في أهله ، وليس في الرواية عن ابن عباس ، وابن عمر : أو جلل . وإنما ذلك عن ميمون وحده .

فأما الحديث الذي إليه ذهب من اتبع ابن عباس ، وابن عمر على قولهما في هذا الباب فما وجدته في أصل سماع أبي - رحمه الله - أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، حدثنا نصر بن مرزوق ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عطاء بن لبيبة ، عن عبد الملك بن جابر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقلد قميصه من جنبيه حتى أخرجه من رجليه فنظر القوم إلى النبي - عليه السلام - فقال : أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة ، فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بهديه وأقام في أهله فقلد الهدي وأشعره - أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم ، واحتجوا بهذا الحديث وبما مضى في حديث مالك ، عن ابن عباس من قوله : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على [ ص: 224 ] الحاج حتى ينحر الهدي . وعبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة هذا رجل من أهل المدينة شيخ روى عنه جماعة من أهل المدينة ، منهم : حاتم بن إسماعيل وسليمان بن بلال ، والدراوردي وداود بن قيس ، ويروي عن سعيد بن المسيب ، وعامر بن سعد ، ويقال : عبد الرحمن بن لبيبة ، وعبد الملك بن جابر هذا ليس بالمشهور بالنقل .

وذكر عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس ، عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله ، قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج منه ، فسئل ، فقال : وعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت .

وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : وأخبرنا هشام بن حسان ، عن ابن سيرين أن ابن عباس بعث بهديه ، ثم وقع على جارية له ، فأتى مطرف بن الشخير في المنام ، فقيل له : ائت ابن عباس فمره أن يطهر فرجه ، فلما أصبح أبى أن يأتيه ، فأتى الليلة الثانية ، فقيل له بمثل ذلك ، وأتى ليلة ثالثة فقيل له قول فيه بعض الشدة ، فلما أصبح أتى ابن عباس فأخبره بذلك ، فقال ابن عباس : وما ذلك ؟ [ ص: 225 ] ثم ذكر ، فقال : إني وقعت على فلانة بعد ما قلدت الهدي ، فكتب ذلك اليوم الذي وقع عليها ، فلما قدم ذلك الرجل الذي بعث بالهدي معه سأله : أي يوم قلدت الهدي ؟ فأخبره ، فإذا هو قد وقع عليها بعد ما قلد الهدي ، فأعتق ابن عباس جاريته تلك .

قال : وأخبرنا ابن جريج ، أخبرنا نافع ، عن ابن عمر ، قال : إذا قلد الرجل هديه فقد أحرم ، والمرأة كذلك ، فإن لم يحج فهو حرام حتى ينحر هديه .

قال : وأخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله . وحماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان إذا بعث بهديه أمسك عن النساء .

وروى يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إذا قلد الرجل الهدي وأشعره فقد أحرم ، وإن كان في أهله .

وقد روى أبو العالية ، عن ابن عمر خلاف ما روى نافع . ذكر حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي العالية ، قال : سألت ابن عمر عن الرجل يبعث بهديه أيمسك عن النساء ؟ ، فقال ابن عمر : ما علمنا المحرم يحل حتى يطوف بالبيت .

وذكر معمر ، عن أيوب ، عن أبي العالية ، قال : سمعت ابن عمر ، يقول : إذا بعث الرجل بالهدي فهو محرم ، والله لو كان محرما ما كان له حل دون أن يطوف بالبيت . [ ص: 226 ] قال أيوب : فذكرته لنافع ، فأنكره .

وروى شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، قال : من قلد ، أو أشعر ، أو جلل ، فقد أحرم .

قال أبو عمر : لم يلتفت مالك ، ومن قال بقوله إلى حديث عبد الرحمن بن عطاء بن لبيبة ، عن ابن جابر ، عن جابر المذكور في هذا الباب ، وردوه بحديث عائشة لتواتر طرقه عنها وصحته ، وما يصحبه من جهة النظر إلى ثبوته من طرق الأثر ، رواه مسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد ، عن عائشة ، وهشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، وابن شهاب ، عن عروة ، وعمرة عن عائشة ، وعبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة . وأفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة . ذكر معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : إن كنت لأفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يبعث بها فما يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم .

وذكر ابن وهب ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، وعمرة ، عن عائشة مثله .

وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام ، عن عروة ، عن أبيه ، قال : دخل رجل على عائشة ، فقال : إن ابن [ ص: 227 ] زياد قلد بدنه فتجرد ، قالت عائشة : فهل كانت له كعبة يطوف بها ؟ ، قالوا : لا ، قالت : والله ما حل أحد من حج ولا عمرة حتى يطوف بالبيت ، ثم قالت : لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يبعث بها فما يتقي ، أو قالت : فما يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قلت لعائشة : إن رجالا هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذين يبعثونهم أن يعرفوهم اليوم الذي يقلدونها ، فلا يزالون محرمين حتى يحل الناس ، فصفقت بيدها ، فسمعت ذلك من وراء الحجاب ، فقالت : سبحان الله لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فيبعث بها إلى الكعبة ويقيم فينا لا يترك شيئا مما يصنع الحلال حتى يرجع الناس .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، حدثنا [ ص: 228 ] أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها وأشعرها وبعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلالا ، والآثار عن عائشة بهذا متواترة ، وبها قال مالك ، والشافعي في أكثر أهل الحجاز ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي ، وعبيد الله بن الحسن في جماعة أهل العراق ، والأوزاعي في أهل الشام ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري ، ولم يقل واحد منهم بحديث عبد الرحمن بن عطاء ، وليس عندهم بذلك ، وترك مالك الرواية عنه ، وهو جاره وحسبك بهذا ، إلا أن أبا حنيفة ، وأصحابه خصوا الإبل إذا قلدها من قصد البيت أنه يكون بتقليده لها محرما إذا كان قاصدا للحج ، أو العمرة إلى البيت ، وليس كذلك عندهم من قلد الغنم ، وإن أم البيت ; لأن الغنم لا تقلد عندهم ، وهو قول مالك ، وأصحابه في الغنم أنها لا تقلد .

قال مالك ، وأصحابه : تقلد الإبل ، والبقر ، ولا تقلد الغنم وتجزئ النعل الواحدة في التقليد وتجعل حمائل القلائد مما شئت .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يقلد كل هدي متعة ، أو قران ، أو تطوع من الإبل والبقر ، فأما الغنم فلا تقلد ، ولا يقلد هدي إحصار ، ولا جماع ، ولا جزاء صيد ، ولا حنث في يمين بهدي جزورا ، أو بقرة ، وقالوا : التجليل [ ص: 229 ] حسن ، ولا يضر تركه ، والتقليد أوجب منه ، وقال مالك : جلال البدن من عمل الناس ، وهو من زينتها ، ولا بأس بشق أوساط الجلال إذا كانت بالثمن اليسير بالدرهمين ونحو ذلك ; لأن ذلك زينة لها .

وقال الشافعي : تقلد الإبل ، والبقر ، وتقلد الغنم الرقاع .

وقال أبو ثور : تقلد البدن ، والهدي كلها من الإبل ، والبقر ، والغنم ، تطوعا كانت أو واجبة ، في متعة ، أو قران ، أو جزاء صيد ، أو نذر ، أو يمين ، إذا اختار صاحب الهدي قلد ذلك كله إن شاء ، ويجلل الهدي بما شاء .

واحتج من اختار تقليد الغنم بما رواه الأعمش ، ومنصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مرة غنما فقلدها .

حدثناه محمد بن إبراهيم ، حدثنا معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا حماد بن السري ، عن أبي معاوية فذكره ، قال أحمد بن شعيب : وأخبرنا محمد بن قدامة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : لقد رأيتني أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم فيبعث بها ، ثم يقيم فينا حلالا .

وروى شعبة ، وسفيان ، عن منصور بإسناده نحوه ، وشعبة أيضا ، وسفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة [ ص: 230 ] مثله ، ومحمد بن جحادة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة مثله ، ومحمد بن جحادة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة معناه .

واحتج من لم ير تقليد الغنم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حج حجة واحدة لم يهد فيها غنما ، وأنكروا حديث الأسود عن عائشة في تقليد الغنم ، قالوا : هو حديث لا يعرفه أهل بيت عائشة .

واختلف الفقهاء أيضا في إشعار البدن ، فقال مالك : تشعر الإبل ، والبقر ، ولا تشعر الغنم ، وتشعر في الشق الأيسر . وكذلك قال أبو يوسف ومحمد مثل قول مالك سواء في ذلك كله . وحجة من رأى الإشعار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي ، وحفص بن عمر المعنى ، قالا : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، قال أبو الوليد : قال : سمعت أبا حسان ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة [ ص: 231 ] سنامها الأيمن ، ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين ، ثم أتي براحلة ، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج .

قال أبو داود : وهذا مما تفرد به أهل البصرة من السنن لا يشركهم فيه أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر من الجانب الأيمن .

قال أبو عمر : هذا هو المعروف المحفوظ في حديث ابن عباس هذا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر بدنته من شقها الأيمن . ورأيت في كتاب ابن علية ، عن أبيه ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة من الجانب الأيسر ، ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين ، وهذا عندي منكر في حديث ابن عباس هذا ، والمعروف فيه ما ذكره أبو داود " الجانب الأيمن " . لا يصح في حديث ابن عباس غير ذلك إلا أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنته من الجانب الأيسر .

هكذا روى مالك وأيوب ، وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهو قول مالك ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وجماعة ، وهو المعروف عن عطاء .

وقد روى معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن [ ص: 232 ] عمر أنه كان يشعر في الشق الأيمن حين يريد أن يحرم .

وروى ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يشعر من الجانب الأيسر ، وربما أشعر من الجانب الأيمن ، وهو أمر خفيف عند أهل العلم لا يكرهون شيئا من ذلك ، وقد كان ابن عمر ربما أشعر في السنام .

وروى مالك ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر إذا وخز في سنام بدنته يشعرها ، قال : بسم الله والله أكبر .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : تشعر البدن من حيث تيسر .

وقال أبو حنيفة : أكره الإشعار ; لأنه تعذيب للبدن في غير نفع لها ، ولا لصاحبها لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ شيء فيه الروح غرضا ، ولنهيه عن المثلة .

وقال الشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق وسائر أهل العلم : تشعر البدن في الشق الأيمن . وحجتهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلد بدنة وأشعرها من الشق الأيمن وسلت الدم عنها . رواه ابن عباس ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما من جهة النظر فإن الأصول كلها تشهد أن المحرم لا يحل إلا بعمل يعمله ، أقله الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا ، والمروة . وهذا أمر متفق عليه ، وفي حديث عبد الرحمن بن عطاء وقول ابن عباس ، وابن عمر ما يوجب أن يحل دون عمل [ ص: 233 ] يعمله إذا نحر هديه ، وهذا خلاف الإحرام المتفق عليه ، وليس حديث جابر مما يعارض بمثله حديث عائشة عند أهل العلم بالحديث ، وقد كان ابن الزبير يحلف : إن فعل ما روي عن ابن عباس ، وابن عمر في هذا الباب بدعة ، ولا يجوز في العقول أن يحلف على أن ذلك بدعة إلا وهو قد علم أن السنة خلاف ذلك .

روى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق ، قال : فسألت الناس عنه ، فقالوا : أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد ، قال ربيعة : فلقيت عبد الله بن الزبير ، فقال : بدعة ورب الكعبة .

وفي حديث عائشة أيضا من الفقه ما يرد الحديث الذي رواه شعبة ، عن مالك بن أنس ، عن عمر بن مسلم بن أكيمة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره شيئا [ ص: 234 ] ففي هذا الحديث أنه لا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يحلق شعرا ، ولا يقص ظفرا .

وفي حديث عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم حين قلد هديه وبعث به ، وهو يرد حديث أم سلمة ويدفعه ، ومما يدل على ضعفه ووهنه أن مالكا روى عن عمارة بن عبد الله ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لا بأس بالإطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة ، فترك سعيد لاستعمال هذا الحديث ، وهو راويته - دليل على أنه عنده غير ثابت ، أو منسوخ .

وقد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي ، فما دونه [ ص: 235 ] أحرى أن يكون مباحا ، ومذهب مالك أنه لا بأس بحلق الرأس وتقليم الأظفار وقص الشارب في عشر ذي الحجة ، وهو مذهب سائر الفقهاء بالمدينة ، والكوفة .

وقال الليث بن سعد : وقد ذكر له حديث سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أهل عليه منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي ، فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي .

فقال الليث : قد روي هذا ، والناس على غير هذا . وقال الأوزاعي : إذا اشترى أضحيته بعد ما دخل العشر ، فإنه يكف عن قص شاربه وأظفاره ، وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس .

واختلف قول الشافعي في ذلك فمرة قال : من أراد أن يضحي لم يمس في العشر من شعره شيئا ، ولا من أظفاره ، وقال في موضع آخر : أحب لمن أراد أن يضحي أن لا يمس في العشر من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي لحديث أم سلمة ، فإن أخذ من شعره وأظفاره فلا بأس ; لأن عائشة قالت : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . . . الحديث .

وذكر الأثرم أن أحمد بن حنبل كان يأخذ بحديث أم سلمة هذا ، فقيل له : فإن أراد غيره أن يضحي ، وهو لا يريد أن يضحي ؟ فقال : إذا لم يرد أن يضحي لم يمسك عن شيء ، إنما قال : " إذا أراد أحدكم أن يضحي " ، وقال : ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديث عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث بالهدي . . . . . . ، وحديث أم سلمة : إذا [ ص: 236 ] دخل الرجل في العشر . فبقي عبد الرحمن ، ولم يأت بجواب فذكرته ليحيى بن سعيد ، فقال يحيى : ذاك له وجه ، وهذا له وجه ، حديث عائشة : إذا بعث بالهدي وأقام . وحديث أم سلمة : إذا أراد أن يضحي بالمصر ، قال أحمد : وهكذا أقول . قيل له : فيمسك عن شعره وأظفاره ، قال : نعم ، كل من أراد أن يضحي ، فقيل له : هذا على الذي بمكة ، فقال : لا ، بل على المقيم ، وقال : هذا الحديث رواه شعبة عن مالك ، عن عمرو بن مسلم ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه ابن عيينة ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم سلمة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

قال : وقد رواه يحيى بن سعيد القطان ، عن عبد الرحمن بن حميد هكذا ، ولكنه وقفه على أم سلمة ، قال : وقد رواه محمد بن عمرو عن شيخ مالك قيل له : إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر ، فقال : هذا يقوي هذا ، ولم يره خلافا ، ولا ضعفه .

قال أبو عمر : حديث قتادة هذا اختلف فيه على قتادة ، وكذلك حديث أم سلمة مختلف فيه ، وفي رواته من لا تقوم [ ص: 237 ] به حجة وأكثر أهل العلم يضعفون هذين الحديثين ، وقد ذكر عمران بن أنس أنه سأل مالكا عن حديث أم سلمة هذا ، فقال : ليس من حديثي ، قال : فقلت لجلسائه : قد رواه عنه شعبة وحدث به عنه ، وهو يقول : ليس من حديثي ، فقالوا لي : إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال فيه : ليس من حديثي .

قال أبو عمر : إن ابن أنس هذا مدني في سن مالك بن أنس يكنى أبا أنس ، وليس هو عمران بن أبي أنس أبا شعيب المدني ، وعمران بن أبي أنس أوثق من عمران بن أنس فقف على ذلك .

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة الليثي ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : سمعت أم سلمة تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان له ذبح يذبحه ، فإذا أهل هلال ذي الحجة ، فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره شيئا .

وبه عن أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا [ ص: 238 ] دخل الرجل في العشر وابتاع أضحيته فليمسك عن شعره وأظفاره ، قلت : النساء ، قال : أما النساء ، فلا لم يذكر ابن عقيل في حديثه : أم سلمة . قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن كثير بن أبي كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة ، عن يحيى بن يعمر أن علي بن أبي طالب قال : إذا دخل العشر واشترى أضحيته أمسك عن شعره وأظفاره . قال قتادة : فأخبرت بذلك سعيد بن المسيب ، فقال : كذلك كانوا يقولون .

التالي السابق


الخدمات العلمية