التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
641 [ ص: 418 ] حديث أول لأبي طوالة

مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري ، عن أبي يونس مولى عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو واقف على الباب ، وأنا أسمع : يا رسول الله إني أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام ، فأغتسل وأصوم فقال له الرجل : يا رسول الله إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي .


هكذا روى يحيى هذا الحديث مرسلا ، وهي رواية عبيد الله ابنه عنه .

وأما ابن وضاح في روايته عن يحيى في الموطأ ، فإنه جعله عن عائشة فوصله وأسنده ، وكذلك هو عند جماعة الرواة للموطأ مسندا عن عائشة ، منهم : ابن القاسم ، والقعنبي ، [ ص: 419 ] وابن بكير ، وأبو المصعب ، وعبد الله بن يوسف ، وابن عبد الحكم ، وابن وهب .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أبو الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر أبي طوالة الأنصاري ، عن أبي يونس مولى عائشة ، عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو واقف بالباب : يا رسول الله إني أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم فقال : يا رسول الله إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي .

وقد ذكر أبو داود رواية القعنبي عن مالك لهذا الحديث ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ، عن يونس مولى عائشة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مسندا كما ذكرنا إلا أنه قال في آخره : وأعلمكم بما أتبع .

ورواية ابن القاسم وغيره له كما وصفنا مسندا ، عن عائشة ، وهو محفوظ صحيح عن عائشة من طرق شتى من كل طريق في الموطأ ، حاشا رواية يحيى . وبالله التوفيق .

[ ص: 420 ] أخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، يعني ابن جعفر ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أن أبا يونس مولى عائشة أخبره عن عائشة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تسمع من وراء الباب ، فقال : يا رسول الله تدركني الصلاة ، وأنا جنب فأصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة ، وأنا جنب فأصوم قال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، قال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي .

وفي هذا الحديث من المعاني سؤال العالم ، وهو واقف ، فذلك جائز بدلالة هذا الحديث .

وفيه الرواية ، والشهادة على السماع ، وإن لم ير المشهد أو المحدث إذا كان المعنى المسموع مستوفى ، قد استوقن وأحيط به علما ، وفي هذا دليل على جواز شهادة الأعمى ، وقد مضى القول فيها في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .

وفيه المعنى المقصود إليه في هذا الحديث ، وذلك أن الجنب إذا لحقته جنابة ليلا قبل الفجر لم يضر صيامه أن لا يغتسل إلا بعد الفجر ، وقد اختلفت الآثار في هذا الباب . واختلف فيه العلماء أيضا ، وإن كان الاختلاف في ذلك كله عندي ضعيفا يشبه الشذوذ .

فأما اختلاف الآثار فإن أبا هريرة كان يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن من أدركه [ ص: 421 ] الصبح ، وهو جنب ، فقد أفطر ، ولم يجز له صيام ذلك اليوم وهذا الحديث لم يسمعه أبو هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أحال إذ وقف عليه مرة على الفضل بن عباس ، ومرة على أسامة بن زيد ، ومرة قال : أخبرنيه مخبر ، ومرة قال : حدثني فلان وفلان . وسنذكر ذلك كله ، أو بعضه في باب ( سمي ) من كتابنا هذا إن شاء الله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن يحيى بن جعدة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو القاري ، قال : سمعت أبا هريرة ، يقول : لا ورب هذا البيت ما أنا قلته من أدركه الصبح وهو جنب ، فلا يصم , محمد ورب الكعبة قاله . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة ، عن عبد الله بن عمرو القاري [ ص: 422 ] سمع أبا هريرة ، يقول : ورب هذا البيت ما قلت : من أدركه الصبح وهو جنب ، فلا صوم له محمد ورب البيت قاله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، حدثنا بشر بن شعيب ، حدثني أبي ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه احتلم ليلا في رمضان واستيقظ قبل أن يطلع الفجر ، ثم نام قبل أن يغتسل ، فلم يستيقظ حتى أصبح ، قال : فلقيت أبا هريرة حين أصبحت فاستفتيته في ذلك ، فقال : أفطر ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا . قال عبد الله بن عبد الله بن عمر فجئت عبد الله بن عمر ، فذكرت له الذي أفتاني به أبو هريرة ، فقال : إني أقسم بالله لئن أفطرت لأوجعن متنيك ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل .

قال أبو عمر : هكذا يقول شعيب بن أبي جمرة في هذا الحديث ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر . ورواه الليث بن سعد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، فجعل مكان عبد الله عبيد الله ، وجاء بالحديث سواء ، وعبد الله ، وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر ، ثقتان ، وقد ذكرناهما فيما سلف من كتابنا هذا بما فيه كفاية في معرفتهما .

[ ص: 423 ] وروى هذا الحديث معمر ، عن الزهري أن ابنا لعبد الله بن عمر فذكر معناه ، لم يقل : عبد الله ، ولا عبيد الله .

قال أبو عمر : روي عن أبي هريرة أنه رجع عن هذه الفتوى في هذه المسألة إلى ما عليه الناس من حديث عائشة ، ومن تابعها في هذا الباب .

روى عبد الله بن المبارك ، عن ابن أبي ذئب ، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أخيه محمد بن عبد الرحمن أنه كان سمع أبا هريرة ، يقول : من احتلم من الليل ، أو واقع أهله ، ثم أدركه الفجر ، ولم يغتسل ، فلا يصم . قال : ثم سمعته نزع عن ذلك .

وروى منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أن أبا هريرة كف عن قوله ذلك لحديث عائشة فيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وروى أسباط بن محمد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أنه نزع عن ذلك أيضا لحديث أم سلمة فيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، حدثنا أبو عباد ، عن شعبة ، حدثني عبد الله بن أبي السفر ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا ، ثم يغتسل ، ثم يخرج إلى الصلاة ويصلي وأسمع قراءته ، ثم يصوم .

[ ص: 424 ] قال أبو عمر : روي هذا الحديث عن عائشة من وجوه كثيرة وطرق متواترة ، وكذلك روي أيضا عن أم سلمة .

وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فالذي عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق ، والحجاز - القول بحديث عائشة ، وأم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم ، منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وعامة أهل الفتوى من أهل الرأي ، والحديث .

روي عن إبراهيم النخعي ، وعروة بن الزبير وطاوس أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته ، فلم يغتسل حتى يصبح ، فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم .

وروي مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ، والمشهور عن أبي هريرة أنه قال : لا صوم له ، علم أو لم يعلم ، إلا أنه قد روينا عنه من طرق صحاح أنه رجع عن ذلك ، فالله أعلم .

وروي عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنهما قالا : يتم صيام يومه ذلك ويقضيه إذا أصبح فيه جنبا . وقال إبراهيم النخعي في رواية غير الرواية الأولى عنه : إن ذلك يجزيه في التطوع ويقضي في الفرض ، وكان الحسن بن حي يستحب إن أصبح جنبا في رمضان أن يقضي ذلك اليوم ، وكان يقول : يصوم الرجل تطوعا ، وإن أصبح جنبا ولا قضاء عليه ، وكان يرى على الحائض إذا أدركها الصبح ولم تغتسل أن تقضي ذلك [ ص: 425 ] اليوم . وذهب عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون في الحائض نحو هذا المذهب ، وذلك أنه قال : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهر ، وليست كالذي يصبح جنبا فيصوم ; لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيض ينقضه .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم يصبح جنبا - ما فيه شفاء وغنى واكتفاء عن قول كل قائل من حديث عائشة وغيرها ، ودل كتاب الله عز وجل على مثل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .

قال الله عز وجل : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وإذا أبيح الجماع ، والأكل ، والشرب حتى يتبين الفجر فمعلوم أن الغسل لا يكون حينئذ إلا بعد الفجر ، وقد نزع بهذا جماعة من العلماء ، منهم : ربيعة ، والشافعي ، وغيرهما ، ومن الحجة أيضا فيما ذهبت إليه الجماعة في هذا الباب إجماعهم على أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام ، فترك الاغتسال من جنابة تكون ليلا أحرى أن لا يفسد الصوم ، والله أعلم .

وممن ذهب إلى ما قلنا من [ ص: 426 ] العلماء : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو الدرداء ، وأبو ذر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعائشة ، وأم سلمة ، وبه قال مالك في علماء المدينة ، والشافعي في سائر علماء المكيين ، والحجازيين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وابن علية في جماعة فقهاء العراقيين ، والأوزاعي والليث في فقهاء أهل الشام ، والمغرب ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود بن علي ، والطبري ، وجماعة أهل الحديث .

وأما اختلاف الفقهاء في الحائض تطهر قبل الفجر فلا تغتسل حتى يطلع الفجر ، فإن مالكا ، والشافعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبا ثور يقولون : هي بمنزلة الجنب وتغتسل وتصوم ويجزيها صوم ذلك اليوم . وقال عبيد الله بن الحسن العنبري ، والحسن بن حي ، والأوزاعي : تصومه وتقضيه . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن كانت أيامها أقل من عشرة صامته وقضته ، وإن كانت أيامها عشرة ، فإنها تصوم ، ولا تقضي .

قال أبو عمر : قد اتفق هؤلاء كلهم على أنها تصومه ، واختلفوا في قضائه ، ولا حجة مع من أوجب القضاء فيه ، وإيجاب فرض . والفرائض لا تثبت من جهة الرأي ، وإنما تثبت من جهة التوقيف بالأصول الصحاح ، ولا أدري : إن كان عبد الملك بن الماجشون يرى صومه أم لا ; لأنه يقول : إن يومها ذلك يوم فطر ، فإن كان لا يرى صومه ، فهو شاذ ، والشذوذ لا نعرج [ ص: 427 ] عليه ، ولا معنى لما اعتل به من أن الحيض ينقض الصوم ، والاحتلام لا ينقضه ; لأن من طهرت من حيضتها ليست بحائض ، والغسل بالماء عبادة ، ومعلوم أن الغسل معنى ، والطهر غيره ، فتدبر ، والصحيح في هذا الباب ما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، والثوري ، ومن تابعهم . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية