التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1776 [ ص: 428 ] حديث ثان لأبي طوالة

مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ، عن أبي الحباب سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون لجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي .


قال أبو عمر : أبو الحباب سعيد بن يسار هذا مدني تابعي ثقة لا يختلفون فيه ، وهو مولى الحسن بن علي ، وقيل : بل هو مولى شميسة امرأة كانت نصرانية فأسلمت على يدي الحسن بن علي ، وتوفي أبو الحباب سنة سبع عشرة ومائة .

وهذا الحديث في الموطأ بهذا الإسناد عند جماعة رواته فيما علمت ، وقد كان عند مالك فيه إسناد آخر رواه إبراهيم بن طهمان ، عن مالك ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ذكره أبو داود ، وقال : كان عنده أيضا عن مالك حديث أبي طوالة ، عن أبي الحباب .

[ ص: 429 ] قال أبو عمر : معنى هذا الحديث واضح في فضل المتحابين في الله ، ومعنى قوله فيه - والله أعلم - أين المتحابون لجلالي : أين المتحابون إجلالا لي ، ومحبة في ؟ فمن إجلال الله عز وجل إجلال أولياء الله ، ومحبتهم كما جاء في الأثر : من إجلال الله عز وجل : إجلال ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ، ولا الجافي عنه وإذا كان ذكرهم وذكر فضائلهم عمل بر ، فما ظنك بحبهم ، وإخلاص الود لهم ؟

قرأت على أبي عثمان سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سمعت ابن أبي إسرائيل ، يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة ، قال : وسمعت ابن أبي إسرائيل ، يقول : سمعت سفيان ، يقول : اسلكوا سبيل الحق ، ولا تستوحشوا من قلة أهله .

وذكر أبو عبيد ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عوف بن أبي جميلة ، عن زياد بن مخراق ، عن أبي كنانة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه لا الجافي عنه ، وذي السلطان المقسط . وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة : الإمام المقسط ، [ ص: 430 ] وذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ، ولا الجافي عنه - من وجوه فيها لين . وحملة القرآن هم العاملون بأحكامه وحلاله وحرامه ، والعاملون بما فيه ، ومن أوثق عرى الإسلام البغض في الله ، والحب في الله .

حدثنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الله بن مسروق ، حدثنا عيسى بن مسكين ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، حدثنا عارم ، حدثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : تدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الولاية في الله الحب ، والبغض فيه .

وذكر يعقوب بن شيبة ، قال : حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن مسلم بن يسار ، قال : ما من عملي شيء إلا وأنا أخاف أن يكون قد دخله ما يفسده إلا الحب في الله .

قال : وحدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، قال : مرضت مرضة ، فلم يكن [ ص: 431 ] في عملي شيء أوثق في نفسي من قوم كنت أحبهم في الله .

وذكر ابن المبارك ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم قال : نزلت في المتحابين في الله .

وحدثنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الله بن مسرور ، حدثني عيسى بن مسكين ، حدثنا ابن سنجر ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا إسماعيل بن زكرياء ، حدثنا ليث ، عن عمرو بن مرة ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله .

قال أبو عمر : فمن الحب في الله حب أولياء الله ، وهم الأنقياء العلماء الفضلاء ، ومن البغض في الله بغض من حاد الله وجاهر بمعاصيه ، أو ألحد في صفاته وكفر به وكذب رسله ، أو نحو هذا كله .

وأما قوله : " في ظل الله " فإنه أراد - والله أعلم - في ظل عرشه ، وقد يكون الظل كناية عن [ ص: 432 ] الرحمة كما قال : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه يعني بذلك ما هم فيه من الرحمة ، والنعيم ، وقال : أكلها دائم وظلها وقد يكون كناية عن العذاب كما قال عز وجل : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ومن كان في ظل الله يوم الحساب وقي شر ذلك اليوم ، جعلنا الله برحمته من المتحابين فيه ولوجهه ، المستقرين تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، فإن ذلك من أفضل الأعمال وأكرم الخلال .

أخبرنا خلف بن القاسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن صالح السبيعي الحلبي بدمشق ، حدثنا أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سليمان الشعري ، حدثنا محمد بن محمد بن أبي الورد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، حدثنا حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد : أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك ، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : وما ذاك علي ؟ قال : هل واليت لي وليا ، أو عاديت لي عدوا ؟ .

[ ص: 433 ] حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد ، حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس ، حدثنا الحسن بن علي الرامقي ، حدثنا محمد بن عامر ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : قدمت امرأة مضحكة من أهل مكة فنزلت على امرأة مضحكة من أهل المدينة ، ثم جاءت عائشة تسلم عليها ، فقالت لها عائشة : أين نزلت ؟ قالت : على فلانة ، فقالت عائشة : صدق الله ورسوله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .

ومن دعاء الفضل الرقاشي : اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك وأرجو أن لا تفعل ، وإن فعلت لتجمعن بيننا وبين قوم عاديناهم فيك .

وأخبرنا بعض أصحابنا ، قال : أملى علي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الأزدي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من حفظه ، قال : حدثنا أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي قاضي حلب إملاء من حفظه ، حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري ، حدثنا محمد بن محمد بن أبي الورد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن [ ص: 434 ] مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد : أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحتك ، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : يا رب ، وما ذاك ؟ فقال : هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ؟ قال الأردني : هذا الحديث لم يسنده إلا محمد بن محمد بن أبي الورد ، والناس يوقفونه على ابن مسعود .

قال أبو عمر : قد أخبرنا به أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ ، عن أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي ، عن الغضائري بإسناده هذا موقوفا على ابن مسعود من قوله لم يرفعه .

وأخبرنا بعض أصحابنا أيضا ، قال : أملى علي أبو بكر محمد بن عبد الوهاب الإسفراييني الحافظ في المسجد الحرام من حفظه ، قال : حدثنا أبو الفضل أحمد بن حمدون الفقيه ، حدثنا علي بن عبد الحميد ، حدثنا ابن أبي الورد ، واسمه محمد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله إلى نبيه أن قل لفلان الزاهد : أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت راحة نفسك ، وأما انقطاعك إلي ، فقد تعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : وما لك علي ؟ قال : هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ؟ قال الإسفراييني : هذا حديث غريب ورجاله ثقات تفرد به ابن أبي الورد ، عن سعيد بن منصور .

[ ص: 435 ] قال أبو عمر : أما قوله في هذا الحديث : ورجاله ثقات ، فليس كما قال ; لأن حميدا الأعرج هذا الذي يروي عن عبد الله بن الحارث منكر الحديث عند جميع أهل العلم بالنقل ، وهو حميد بن علي أبو يحيى الأعرج ، له عن عبد الله بن الحارث مناكير ، منها : عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : كلم الله موسى يوم كلمه ، وعليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمة صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي رواه أيضا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلف بن خليفة ليس به بأس ، أصله الكوفة وسكن واسط ، وإليها ينسب ، ومات ببغداد سنة إحدى وثمانين .

قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم بن عبد الرحمن أن محمد بن معاوية حدثهم ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : قال الله تبارك وتعالى : المتحابون لجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلالي وليس في الحديث حكم من أحكام الدنيا ، ولا معنى يشكل ، وقد مضى في بسط معناه [ ص: 436 ] بالآثار ، وغيرها كفاية .

وقد حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا قيس ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله عباد لا بأنبياء ، ولا بشهداء يغبطهم الأنبياء ، والشهداء بمكانهم من الله عز وجل قالوا : يا نبي الله من هم ؟ وما أعمالهم ؟ لعلنا نحبهم ، قال : قوم تحابوا بروح الله من غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، والله إن وجوههم نور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وقد حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا محمد بن الحسين الحلبي ، حدثنا علي بن إسماعيل الشعري ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 437 ] أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى - قال - فأرصد الله على مدرجته ملكا ، فلما أتى عليه ، قال له : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية ، قال : هل له عليك من نعمة تربها ؟ قال : لا ، ولكن أحببته في الله ، قال : فإني رسول الله إليك أنه قد أحبك كما أحببته فيه .

وحدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا محمد بن الحسين بن صالح الحلبي ، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن أبي جعفر البطناني ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تحاب رجلان في الله قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا أحمد بن أبي عبيد اللؤلؤي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا جعفر بن عون ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الأرواح جنود مجندة تتلاقى في الهواء فتتشام كما تتشام الخيل ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، ولو أن مؤمنا جاء إلى مجلس فيه مائة منافق ليس فيه إلا مؤمن واحد لقيض له حتى يجلس إليه .

[ ص: 438 ] وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : الأرواح جنود مجندة - جماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود ، وغيره إلا أن هذا اللفظ قول ابن مسعود .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا الحسن بن علي الرامقي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا محمد بن فضيل ، قال : أتيت أبا إسحاق الهمداني ، فقلت : أتعرفني ؟ قال : نعم ، ولولا الحياء منك لقبلتك ، سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله في قول الله لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم نزلت في المتحابين في الله .

وفي رسالة سفيان الثوري إلى عباد بن عباد ، رواه الفريابي عنه ، قال : المتحابون في الله هم المواسون فيه ، والمتباذلون فيه ، والمؤثرون لإخوانهم على أنفسهم بأموالهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية