التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
976 [ ص: 439 ] حديث ثالث لأبي طوالة , مرسل يتصل من وجوه صحاح حسان

مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري ، عن عطاء بن يسار أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير الناس منزلا ، رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ، ألا أخبركم بخير الناس منزلة بعده ، رجل معتزل في غنيمة له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئا .


هذا حديث مرسل من رواية مالك لا خلاف عنه فيه ، وقد يتصل من وجوه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عطاء بن يسار وغيره ، وسنذكر ذلك في آخر الباب إن شاء الله .

وهو من أحسن حديث يروى في فضل الجهاد ، وفي الجهاد من الفضائل على لسان رسول الله صلى الله [ ص: 440 ] عليه وسلم ما لا يكاد يحصى ، قد مر منها كثير في كتابنا هذا ، وليس هذا على شرطنا - موضع ذكرها .

وأما قوله : خير الناس بعده رجل معتزل في غنيمة له ، ففي ذلك حض على الانفراد عن الناس واعتزالهم ، والفرار عنهم ، ولست أدري في هذا الكتاب موضعا أولى بذكر العزلة وفضلها من هذا الموضع ، وقد فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى ، وفضلها جماعة العلماء والحكماء لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس ، وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ، وقد جاء في غير هذا الحديث إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك ولم يخص موضعا من موضع .

وقد قال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك .

وبمثل هذا أوصى ابن مسعود رجلا قال : أوصني ، وقد حدثنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا ابن الأعرابي . وحدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، قالا : حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أخبرنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مسلم [ ص: 441 ] البطين ، عن عدسة ، قال : مر بنا ابن مسعود فأهدي له طائر ، فقال ابن مسعود : وددت أني حيث صيد هذا الطائر لا يكلمني أحد ، ولا أكلمه .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر : إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم فالزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وقالت عائشة : كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يمكث الأيام في غار حراء يتعبد ويتزود لذلك من عند خديجة ، فيبقى الأيام ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده ، فلم يزل كذلك حتى جاءه الوحي . ذكره معمر ، وغيره ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وكان يقال قديما : طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته .

حدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا علي بن أزهر أبو الحسن الفرغاني بفرغان ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن ثور بن يزيد ، عن أبي يحيى سليم بن عامر ، قال : [ ص: 442 ] قال أبو الدرداء : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره ونفسه وفرجه ، وإياكم والمجالس في الأسواق ، فإنها تلغي وتلهي .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا علي بن محمد ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن إسماعيل بن أمية أن عمر بن الخطاب ، قال : إن اليأس غنى ، وإن الطمع فقر حاضر ، وإن العزلة راحة من خلطاء السوء . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسيل الحسن وغيره .

وأخبرنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن يسار بن عبد الرحمن قال : قال لي بكير بن الأشج : ما فعل خالك ؟ قال : قلت : لزم البيت منذ كذا وكذا ، فقال : إلا أن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .

قال : وحدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال : قال [ ص: 443 ] طلحة بن عبيد الله : أقل لعيب الرجل لزومه بيته . وعن حذيفة أنه قال : لوددت أني وجدت من يقوم لي في مالي فدخلت بيتي ، فأغلقت بابي ، فلم يدخل علي أحد ، ولم أخرج إلى أحد حتى ألحق بالله عز وجل ، وقال غيره : طوبى لمن كان غنيا خفيا ، وكان طاوس يجلس في البيت ، فقيل له : لم تكثر الجلوس في البيت ؟ فقال : حيف الأئمة وفساد الناس .

قال أبو عمر : فر الناس قديما من الناس ، فكيف بالحال اليوم مع ظهور فسادهم وتعذر السلامة منهم ، ورحم الله منصورا الفقيه حيث يقول :


الناس بحر عميق والبعد منهم سفينة     وقد نصحتك فانظر
لنفسك المسكينة

وقال رجل لسفيان الثوري : أوصني ، فقال : هذا زمان السكوت ، ولزوم البيوت .

وأخذ هذا منصور ، فقال :


الخير أجمع في السكـو     ت وفي ملازمة البيوت
فإذا استوى لك ذا وذا     لك فاقتنع بأقل قوت

[ ص: 444 ] وقال منصور أيضا :


ليس هذا زمان قولك ما الحكـ     ـم على من يقول أنت حرام
والحقي بائنا بأهلك أو أنـ     ـت عتيق محرر يا غلام
ومتى تنكح المصابة في العد     ة عن شبهة وكيف الكلام
في حرام أصاب سن غزال     فتولى وللغزال بغام
إنما ذا زمان كد إلى المو     ت وقوت مبلغ والسلام

حدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الحميد ، حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، قال : سمعت أحمد بن عبد الله بن يونس ، يقول : سمعت سفيان الثوري ، يقول : ما رأيت لأحد خيرا من أن يدخل في جحر . وقال يحيى بن يمان : قال لي سفيان : أنكر من تعرف ، ولا تتعرف إلى من لا تعرف .

وحدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، سمعت الحسين بن الحسن المروزي ، يقول : سمعت سفيان بن عيينة ، يقول : رأيت الثوري في النوم ، فقلت له : أوصني ، فقال : أقل من معرفة الناس ، أقل من معرفة الناس . قال ابن عيينة : كأنه ملدوغ من مجالسة الناس ، وقال [ ص: 445 ] داود الطائي : فر من الناس كما تفر من الأسد واستوحش منهم كما تستوحش من السباع .

ومما يروى للشافعي - رحمه الله - وزمانه لا محالة خير من زماننا هذا :


ليت السباع لنا كانت مجاورة     وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها     والناس ليس بهاد شرهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها     تعش سليما إذا ما كنت منفردا

وقال الفضيل بن عياض : أقل من معرفة الناس ، وليكن شغلك في نفسك .

وقال وهيب بن الورد : خالطت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي ذنبا فيما بيني وبينه ، ولا وصلني إذا قطعته ، ولا ستر علي عورة ، ولا أمنته إذا غضب ، فالاشتغال بهؤلاء حمق .

وقال مالك بن دينار : قال لي راهب من الرهبان : يا مالك إن استطعت أن تجعل بينك وبين الناس سورا من حديد فافعل ، فانظر كل جليس لا تستفيد منه خيرا في دينك فانبذه عنك .

حدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووهب بن جرير ، عن شعبة ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم قال : قال عمر بن الخطاب : [ ص: 446 ] خذوا بحظكم من العزلة . وكان سعيد بن المسيب يقول : العزلة عبادة .

وذكر عبد الله بن حبيق قال : قال لي يوسف بن أسباط : قال لي سفيان الثوري ، وهو يطوف حول الكعبة : والذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة . وقال بعض الحكماء : الحكمة عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت ، والعاشرة عزلة الناس ، قال : وعالجت نفسي على الصمت ، فلم أظفر به ، فرأيت أن العاشرة خير الأجزاء ، وهي عزلة الناس .

قال أبو عمر : وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، وإن كنت بين ظهرانيهم .

ذكر ابن المبارك قال : حدثنا وهيب بن الورد ، قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه ، فقال : إن الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا ، وقد حدثت نفسي أن لا أخالطهم ، فقال : لا تفعل ، إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا .

وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت .

قال أبو عمر : يشبه أن يكون من ذهب هذا المذهب من حجته ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، حدثنا البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، حدثني شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : من هو ؟ قال : [ ص: 447 ] ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ، ولا يصبر على أذاهم .

وروينا عن الأحنف بن قيس أنه قال : الكلام بالخير أفضل من السكوت ، والسكوت خير من الكلام باللغو والباطل ، والجليس الصالح خير من الوحدة ، والوحدة خير من جليس السوء .

وهذا باب يتسع بالآثار ، والحكايات عن العلماء ، والحكماء ، وهو باب مجتمع عليه على حسب ما ذكرنا وبالله توفيقنا .

وأما الآثار المرفوعة في هذا الباب فحدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا شبابة . وأخبرنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين البغدادي ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، جميعا عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ، وهم جلوس ، فقال : ألا أخبركم بخير الناس منزلا قلنا : بلى يا رسول الله ، [ ص: 448 ] فقال : رجل يمسك بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل ، أو يموت ، ألا أخبركم بالذي يليه قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شر الناس .

أخبرنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا أخبركم بخير الناس ، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، ألا أخبركم بالذي يتلوه ، رجل معتزل في غنيمة له يؤدي حق الله فيها ، ألا أخبركم بشر الناس ، رجل يسأل بالله ، ولا يعطي به وقد رواه بعضهم عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، والصحيح فيه عن ابن عباس إن شاء الله .

وروي هذا المعنى أيضا من حديث الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا كثير بن عبيد ، حدثنا بقية ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله فقال : ثم من يا رسول الله ؟ قال : ثم مؤمن في شعب [ ص: 449 ] من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره .

وحدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا الفريابي ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قيل : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الجهاد في سبيل الله عز وجل قيل : ثم مه ؟ قال : رجل في شعب من الشعاب يتقي ربه عز وجل ويذر الناس من شره .

حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن نعجة بن عبد الله الجهني ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما سمع بهيعة استوى على متنه ، ثم يطلب الموت في مظانه ، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير .

حدثنا محمد بن خليفة ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا الفريابي ، حدثنا أبو جعفر النفيلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن [ ص: 450 ] محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم مبشر بنت البراء بن معرور ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : ألا أخبركم بخير الناس رجلا ، قالوا : بلى يا رسول الله ، فأشار بيده إلى الشام ، وقال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ينتظر أن يغير ، أو يغار عليه ثم قال : ألا أخبركم بخير الناس بعده قالوا : بلى يا رسول الله ، فأشار بيده نحو الحجاز ، ثم قال : رجل في غنيمة يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويقيم حق الله في ماله ، قد اعتزل شرور الناس .

قال أبو عمر : ويدخل في هذا الباب قوله - عليه السلام - يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وسيأتي ذكر هذا الحديث في باب عبد الرحمن بن أبي صعصعة إن شاء الله .

وإنما جاءت هذه الأحاديث بذكر الشعاب ، والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها الناس ، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في هذا المعنى مثل اسم الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس ; لأن من نأى عنهم سلموا منه وسلم منهم لما في مجالستهم ، ومخالطتهم من الخوض في الغيبة ، واللغو ، وأنواع اللغط ، وبالله العصمة والتوفيق لا رب غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية