التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
287 حديث ثان لشريك بن أبي نمر

مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أصلاتان معا ؟ أصلاتان معا ؟ وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح .


لم تختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث فيما علمت إلا ما رواه الوليد بن مسلم ، فإنه رواه عن مالك ، عن شريك ، عن أنس ، حدثناه خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، حدثنا أحمد بن عمير بن جوصاء ، حدثنا محمد بن وزير ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا مالك ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس أن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا الإقامة فقاموا يصلون ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أصلاتان معا ؟ .

[ ص: 68 ] ورواه الدراوردي عن شريك ، فأسنده عن أبي سلمة عن عائشة ، حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج حين أقيمت الصلاة صلاة الصبح فرأى ناسا يصلون فقال : أصلاتان معا ؟ وروى نحو هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سرجس وابن بحينة وأبو هريرة .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد عن عاصم ، عن عبد الله بن سرجس قال : جاء - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح فصلى الركعتين ، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، فلما انصرف قال : يا فلان ، أيتهما صلاتك : التي صليت وحدك ، أو التي صليت معنا ؟ .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حفص بن عاصم ، عن ابن بحينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي ركعتين قبل الصبح والمؤذن يقيم ، فلما فرغ من صلاته ألاث به وقال : أتصلي الصبح أربعا ؟ .

قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - أصلاتان معا وقوله لهذا الرجل : أيتهما صلاتك ؟ ، وقوله في حديث ابن بحينة : أتصليهما أربعا ؟ كل ذلك إنكار منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك الفعل ، فلا يجوز لأحد أن يصلي في المسجد ركعتي الفجر ولا شيئا من [ ص: 69 ] النوافل إذا كانت المكتوبة قد قامت ، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ما هو أصح من هذا ، وعليه المعول في هذه المسألة عند أهل العلم ، وذلك قوله - عليه السلام - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة يعني : التي أقيمت . وهذا يوضح معنى " أصلاتان معا " ويفسره ، وهو حديث صحيح رواه عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذلك رواه ابن جريج ، وحماد بن سلمة ، وحسين المعلم ، وزياد بن سعد ، وورقاء ، وأيوب السختياني ، وزكرياء بن إسحاق مرفوعا ، وقد وقفه قوم من رواته على أبي هريرة ، والقول قول من رفعه ، وهو حديث ثابت ظاهر المعنى ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن ورقاء قال : وحدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج قال : وحدثنا الحسن قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن زيد ، عن أيوب قال : وحدثنا محمد بن المتوكل قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق ، كلهم عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

[ ص: 70 ] حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي قال : حدثنا عامر بن محمد قال : حدثنا محمد بن زنبور قال : حدثنا فضيل بن عياض قال : حدثنا زياد بن سعد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، وقد روى هذا الحديث أبو سلمة عن أبي هريرة من وجه صحيح أيضا ، حدثناه خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران قال : حدثنا عمارة بن وثيمة بن موسى بن الفرات قال : حدثنا أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عبد الله بن عياش بن عباس ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت .

وفي هذا الباب أيضا حديث جابر وحديث ابن عباس ، واختلف الفقهاء في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة ، أو دخل المسجد ليصليهما فأقيمت الصلاة ، فقال مالك : إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما ، وإن كان لم يدخل المسجد ، فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركع خارج المسجد ، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد التي تصلى فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد ، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه ، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما .

وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد .

وقال الأوزاعي : إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الآخرة ، فأما الركعة الأولى فيركع وإن فاتته .

[ ص: 71 ] وقال الحسن بن حي : إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية ، دخل معه ، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ، ثم يدخل مع الإمام .

قال أبو عمر : اتفق هؤلاء كلهم على ركعتي الفجر والإمام يصلي ، منهم من راعى ( فوت الركعة الأولى ، ومنهم راعى ) الثانية ، ومنهم من اشترط الخروج عن المسجد ، ( ومنهم من لم يباله على حسبما ) ذكرنا عنهم ، وحجتهم أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها ، إلا أن من أصحاب مالك من قال : هما من الرغائب وليسا من السنن . وهذا قول ضعيف لا وجه له ، وكل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسنة ، وآكد ما يكون من السنن ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه ويندب إليه ويأمر به ، ومن الدليل على تأكيدهما أنه صلاهما حين نام عن صلاة الصبح في سفره بعد طلوع الشمس ، وهذا غاية في تأكيدهما ، ولا أعلم خلافا بين ( علماء ) المسلمين في أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة إلا ما ذكر ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا أنهما من الرغائب ، وهذا لا يفهم ما هو ، وأعمال البر كلها مرغوب فيها ، وأفضلها ما واظب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها وسنها ، ولم يختلف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أضاء له الفجر صلى ركعتين قبل صلاة الصبح وأنه لم يترك ذلك حتى [ ص: 72 ] مات ، فهذا عمله ، وقالت عائشة : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قالا : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن ابن جريج قال : حدثني عطاء عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الصبح .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها .

قال أبو عمر : فاحتج من قدمنا قوله من الفقهاء وأصحابهم بهذه الآثار وما كان مثلها في تأكيد ركعتي الفجر ، قالوا : هي سنة مؤكدة ، فإذا أمكن الإتيان بهما وإدراك ركعة من الصبح فلا معنى لتركهما ; لأنه لا تفوت الصلاة من أدرك ركعة منها ، وقال منهم آخرون : إذا لم تفته الركعة الأولى من صلاة الصبح فلا بأس أن يصليهما في المسجد .

وقال مالك وأبو حنيفة : خارج المسجد ; لأن النهي المذكور عندهم في حديث ابن بحينة وعبد الله بن سرجس مع قوله : " أصلاتان " معا يحتمل أن يكون ذلك ; لأنه جمع بين الفريضة والنافلة في موضع واحد كما نهى من [ ص: 73 ] صلى الجمعة أن يصلي بعدها تطوعا في مقام واحد حتى يتقدم أو يتكلم ، هذا ما نزع به الطحاوي ، وهو شيء عندي ليس بالقوي .

ومن حجة مالك وأبي حنيفة أيضا في أن يصليهما خارج المسجد إن رجا أن يدرك : ما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح ، فصلاهما في حجرة حفصة ، ثم إنه صلى مع الإمام ، فهذا ابن عمر قد صلاهما بعد أن أقيمت المكتوبة خارج المسجد ، وهو قول مالك وأبي حنيفة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : إذا دخل الرجل المسجد والقوم يصلون فلا يصلي الركعتين قبل الغداة ، ولكن ليصلهما خارجا على دكان أو على شيء ، وهذا مثله أيضا .

ومن حجة الثوري والأوزاعي في أن يصليهما في المسجد إذا رجا أن يدرك صلاة الصبح مع الإمام ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد ، وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر ، ثم دخل في الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى قالوا : وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد .

[ ص: 74 ] وقال الشافعي : من دخل في المسجد ، وقد أقيمت الصلاة صلاة الصبح فليدخل مع الناس ركعتي الفجر . ومن قوله : أنه إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد . وكذلك قال الطبري : لا يتشاغل أحد بنافلة بعد إقامة الفريضة .

وقال أبو بكر الأثرم : سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع ، عن الرجل يدخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين ، فقال : يدخل في الصلاة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، واحتج أيضا بقوله : أصلاتان معا ؟ قال أحمد : ويقضيهما من الضحى ، قيل له : فإن صلاهما بعد سلامه وفراغه من صلاة الفجر ، فقال : يجزيه ، وأما أنا فأختار أن يصليهما من الضحى ، ثم قال : حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر يصليهما من الضحى .

قال أبو بكر الأثرم وحدثنا عفان قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا سلمة بن عائشة قال ، وقال محمد بن سيرين : كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة ، وقال محمد : ما يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت ، رواه أبو سلمة ، عن أبي هريرة وعطاء بن يسار ، عن أبي هريرة والحجة عند التنازع السنة ، فمن أدلى بها فقد أفلح ، ومن استعملها فقد نجا ، وما توفيقي إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية