التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1434 [ ص: 82 ] مالك عن هاشم بن هاشم حديث واحد .

وهو هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص معروف مشهور النسب شريف ، وقيل فيه : هاشم بن هاشم بن هاشم ، وقال بعضهم : إنه معروف النسب مجهول في نفسه ، وهذا عندي ليس بشيء ، وقد روى عنه مالك والدراوردي وشجاع بن الوليد أبو بدر السكوني وأبو ضمرة أنس بن عياض ومكي بن إبراهيم وأبو أسامة ومروان الفزاري ، ذكره أبو حاتم الرازي وغيره ، ويروي هاشم بن هاشم عن سعيد بن المسيب وعامر بن سعد وعائشة بنت طلحة وعبد الله بن نسطاس ، وحديث مالك عنه : مالك عن هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن نسطاس ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار .


قال مصعب الزبيري : عبد الله بن نسطاس يروي عن أبيه ، عن جابر ونسطاس مولى أبي بن خلف كان جاهليا .

[ ص: 83 ] لم يختلف الرواة عن مالك في إسناد هذا الحديث ومتنه ، إلا أن أكثر الرواة عن مالك يقولون فيه : من حلف على منبري هذا بيمين آثمة . كذا قال ابن بكير وابن القاسم والقعنبي وغيرهم .

وقال يحيى : من حلف على منبري آثما . والمعنى واحد ، وفيه اشتراط الإثم ، فالوعيد لا يقع إلا مع تعمد الإثم في اليمين واقتطاع حق المسلم بها ، وهذا المعنى موجود في هذا الحديث ، وفي حديث العلاء على ما مضى في بابه من هذا الكتاب ، ومذهبنا في الوعيد أنه غير نافذ في هذا ، وفي كل ما أوعد الله أهل الإيمان عليه النار والعذاب ، فإن الله بالخيار في عبده المذنب إن شاء أن يغفر له غفر ، وإن شاء أن يعذبه عذبه ، لقول الله - عز وجل - : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) والتوبة تمحو السيئات كلها كفرا كانت أو غير ذلك ، قال الله - عز وجل - : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ، إلا أن حقوق الآدميين لا بد فيها من القصاص بالحسنات والسيئات ، وقد بينا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا ( هذا ) والحمد لله .

وأما اليمين على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو غيره من المنابر فقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ذاهبون إلى أن اليمين عند المنبر ، وفي الجامع لا يكون في أقل من ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، فإذا كان ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو قيمة ذلك عرضا فما زاد كانت اليمين فيه في مقطع الحق بالجامع من ذلك البلد وهذه جملة مذهب مالك قال مالك : يحلف المسلم في [ ص: 84 ] القسامة واللعان ، وفيما له بال من الحقوق يريد ربع دينار فصاعدا في جامع بلده في أعظم مواضعه ، وليس عليه التوجه إلى القبلة . هذه رواية ابن القاسم .

وروى ابن الماجشون عن مالك أنه يحلف قائما مستقبل القبلة ، ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط يحلف عنده في ربع دينار فأكثر ، قال مالك : ومن أبى أن يحلف عند المنبر فهو كالناكل عن اليمين ، ويجلب في أيمان القسامة عند مالك من كان من عمل مكة إلى مكة ، فيحلف بين الركن والمقام ، ويجلب في ذلك إلى المدينة من كان من عملها ، فيحلف عند المنبر ، ومذهب الشافعي في هذا الباب كمذهب مالك في المنبر بالمدينة وبين الركن والمقام بمكة في القسامة واللعان ، وأما في الحقوق فلا يحلف عنده عند المنبر في أقل من عشرين دينارا .

وذكر عن سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : أبصر عبد الرحمن بن عوف قوما يحلفون بين المقام والبيت ، فقال : أعلي دم ؟ قيل : لا ، قال : أفعلي عظيم من الأمر ؟ قيل : لا ، قال : لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام . هكذا رواه الزعفراني عن الشافعي يتهاون الناس .

ورواه المزني والربيع في كتاب اليمين مع الشاهد فقالا فيه : ( لقد ) خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام ، وهو الصحيح عندهم ، ومعنى يبهأ يأنس الناس به ، يقال : بهأت به ، أي : أنست به ، ومنبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعظيم مثل ذلك لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين آثمة تعظيما له .

وذكر حديث مالك عن هاشم بن هاشم وحديث مالك عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار ، فقضى باليمين على زيد بن ثابت [ ص: 85 ] على المنبر ، فقال زيد : أحلف له مكاني ، فقال له مروان : لا والله لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، فجعل زيد يحلف إن حقه لحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر ، فجعل مروان يعجب من ذلك ، قال مالك : كره زيد صبر اليمين .

قال الشافعي : وبلغني أن عمر بن الخطاب حلف على المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل ، وأن عثمان - رضي الله عنه - ردت عليه اليمين على المنبر فاقتدى منها ، وقال : أخاف أن توافق قدر بلاء فيقال بيمينه . قال الشافعي : واليمين على المنبر ما لا اختلاف فيه عندنا بالمدينة ومكة في قديم ولا حديث .

قال الشافعي : فعاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآثار بعده عن أصحابه ، وزعم أن زيد بن ثابت كان لا يرى اليمين على المنبر ، وأنا روينا ذلك عنه وخالفناه إلى قول مروان بغير حجة . قال الشافعي : هذا مروان يقول لزيد - وهو عنده ( من ) أحظى أهل زمانه وأرفعهم منزلة - : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق . قال : فما منع زيد بن ثابت لو ( لم ) يعلم أن اليمين على المنبر حق : أن يقول مقاطع الحقوق مجلس الحكم كما قال أبو حنيفة وأصحابه : ما كان زيد ليمتنع من أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا ، وقد قال له : أتحل الربا يا مروان ؟ فقال مروان : أعوذ بالله ، وما هذا ؟ قال : فالناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها . فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس ، فإذا كان مروان لا [ ص: 86 ] ينكر على زيد بهذا ، فكيف ينكر عليه في نفسه أن يقول : لا تلزمني اليمين على المنبر ، لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان وآثرهم عنده ، ولكن زيدا علم أن ما قضى به مروان هو الحق ، وكره أن يصبر يمينه على المنبر ، قال الشافعي : وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ، والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف لاجتماعنا على اليمين عند المنبر ، قال : وقد روى الذين خالفونا في هذا حديثا يثبتونه عندهم عن منصور ، عن الشعبي وعن عاصم الأحول ، عن الشعبي ، أن عمر جلب قوما من اليمن فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، فإن كان هذا ثابتا عن عمر ، فكيف أنكروا علينا أن يحلف من بمكة بين الركن والمقام ، ومن بالمدينة على المنبر ، ونحن لا نجلب أحدا من بلده ؟ ولو لم يحتج عليهم بأكثر من روايتهم ، أو بما احتجوا به علينا عن زيد ، لكانت الحجة بذلك لازمة ، فكيف والحجة فيها ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه بعده ؟ وهو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا .

وذكر حديث أبي بكر الصديق في قصة قيس بن مكشوح ، فقال : أخبرني من أثق به عن الضحاك بن عثمان ، عن المقبري ، عن نوفل بن مساحق العامري ، عن المهاجر بن أبي أمية قال : كتب إلي أبو بكر أن أبعث إليه بقيس بن مكشوح في وثاق ، فبعثت به إليه فجعل قيس يحلف ما قتل دادويه ، وأحلفه أبو بكر خمسين يمينا مرددة عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله ما قتله ، ولا علم له قاتلا ، ثم عفا عنه .

وذكر حديث مالك عن هاشم بن هاشم المذكور في هذا الباب بمثل لفظ ابن بكير وابن القاسم والقعنبي سواء .

[ ص: 87 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا محمد بن سعد قال : حدثنا أبو ضمرة قال : حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة الزهري ، عن عبد الله بن نسطاس قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحلف رجل على يمين آثمة عند هذا المنبر إلا يتبوأ مقعده من النار ، ولو على سواك أخضر .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا مكي بن إبراهيم قال : حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن نسطاس مولى كثير بن الصلت ، عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حلف من غير سبب على منبري هذا ، ولو كان سواكا أخضر ، تبوأ مقعده من النار .

ففي هذه الآثار دليل على أن اليمين تكون على المنبر لا في مجلس الحكم ، واختلف الفقهاء في اليمين على المنبر ، وفي مقدار ما يحلف عليه عند المنبر على حسبما قدمنا ، ونزيد ذلك بيانا فنقول : مذهب مالك وأصحابه ( أن ) لا يحلف على المنبر في مسجد من المساجد الجوامع إلا على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وأما ما عداها فيحلف في الجامع ويحلف قائما ، ولا يحلف على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في المسجد الجامع بغيره من البلدان إلا في ثلاثة دراهم فصاعدا ، ولا يحلف في القسامة والدماء والحقوق التي تكون بين الناس إلا في المسجد الجامع دون المنبر من ذلك إلا بالمدينة ، فإنه يحلف في القسامة واللعان على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي ثلاثة دراهم فصاعدا .

[ ص: 88 ] وقال الشافعي : من ادعى مالا أو ادعي عليه فوجبت اليمين في ذلك نظر ، فإن كان عشرين دينارا فصاعدا ، فإن كان بالمدينة حلف على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان بمكة حلف بين الركن والمقام إذا كان ما يدعيه المدعي عشرين دينارا فصاعدا . قال : ويحلف في ذلك على الطلاق والحدود كلها وجراح العمد صغرت أو كبرت ، وجراح الخطأ ، إن بلغ أرشها عشرين دينارا ، قال : ولو أخطأ الحاكم في رجل عليه اليمين على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بين الركن والمقام فأحلفه في مكان آخر بمكة أو بالمدينة ، ففيها قولان : أحدهما أن لا تعاد عليه اليمين ، والآخر أن تعاد عليه ، واختار كثير من الصحابة أن لا تعاد عليه .

قال الشافعي : وإن كان ذلك في بيت المقدس أحلفناه في مواضع الحرمة من مسجدها وأقرب المواضع من أن يعظمها قياسا على الركن والمقام ( والمنبر ) قال : ولا يجلب أحد من بلد به حاكم إلى مكة ، ولا إلى المدينة ، ويحكم عليه حاكم بلده .

وقال مالك : لا يجلب إلى المدينة للأيمان من بعد عنها إلا في الدماء : أيمان القسامة .

قال مالك : ويحلف الناس في غير المدينة في مسجد الجماعات ليعظم ذلك .

قال أبو عمر : قد مضى في هذا الباب ، عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أنهما جلبا إلى المدينة ومكة في الأيمان في الدماء ، فقول مالك في ذلك أولى لما جاء عنهما ، وبالله التوفيق .

[ ص: 89 ] وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجب الاستحلاف عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد ، ولا بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا في كثيرها ، ولا في الدماء ولا في غيرها ، ولكن الحكام يستحلفون من وجبت عليه اليمين في مجالسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية